بوباء الطاعون وطلقات المدافع.. ليلة سقوط بغداد في يد العثمانلي

بغداد العثمانية

بغداد العثمانية

كثيرة هي الليالي الدموية التي عاشتها بغداد، أرسخها في الذهن ليلة الحادي عشر من فبراير من العام 1258 عندما داسها هولاكو والمغول بخيولهم، وأقربها في الزمن ليلة التاسع من أبريل من العام 2003 عندما استباحتها الولايات المتحدة الأمريكية بطائراتها ودباباتها. ولكن ثمة ليلة دموية ثالثة لبغداد أسقطتها الذاكرة العراقية والعربية، توسطت في الزمن بين الليلة الأولى والثانية، وكان العثمانلي بطلها وصاحبها الذي أخذ نصيبه من صبغ مدينة السلام بلون الدماء الأحمر القاني.  

الباشا والسلطان

في العام 1808، مثل صعود محمود الثاني إلى عرش السلطنة العثمانية حدثا انقلابيا في التاريخ العثماني خلال عصر أفوله وانحلاله، فقد سعى السلطان إلى ترميم الإمبراطورية التركية بإعادة فرض المركزية فوق ولاياتها خاصة الموجودة في العالم العربي. 

وبينما فشلت سياسة محمود الثاني في مصر مثلا، والتي ابتعد بها محمد علي باشا عن سلطة إسطنبول، فإنها وجدت نجاحا كبيرا في العراق نتيجة انقسام الأخير الطائفي، آفته الكبرى والتي لم تنتهي إلى اليوم.  

كانت إيالة (ولاية) بغداد في ذلك العصر يحكمها مجموعة من المماليك من أصول جورجية أعطتهم السلطنة العثمانية حكما شبه مستقل منذ منتصف القرن الثامن عشر، مقابل أن يدفعوا عنها الخطر الإيراني.

وطوال ما يقرب من التسعين عاما، نجح المماليك في مهمتهم، وتمكنوا حتى من الابتعاد عن النفوذ العثماني نفسه، فأقروا الأمن والنظام في بغداد بشكل لم يتوافر من قبل في ظل السلطة العثمانية المباشرة.

وعلى شاكلة تجربة محمد علي في مصر، حاول داود باشا حاكم بغداد تحديث ولايته منذ بويع بالإمارة في عام 1816. وبدأ في مد خط الاستقلال عن إسطنبول على آخره بدءا من العام 1827 مستغلا هزيمة محمود الثاني أمام الثورة اليونانية ودمار الأساطيل العثمانية في معركة نفارين البحرية الشهيرة. 

نتيجة لذلك، قرر السلطان العثماني توجيه كل جهوده العسكرية ناحية العراق كي يمنع استقلاله عن دولته على غرار اليونان، وأمر والي حلب علي رضا باشا اللاز في عام 1831 بالتحرك فورا للقضاء على المماليك في بغداد وزعيمهم داوود باشا. 

توجه علي رضا فورا إلى العراق لتنفيذ أمر السلطان، واستغل حالة الفرقة بين القوى السياسية الرئيسية في بغداد لضرب لضرب داود باشا، فضم إلى صفوف القوات العثمانية مجموعة من المماليك الغاضبين على داود، إضافة إلى زعماء العشائر العربية من أمثال صفوق الفارس شيخ الشمر، وسليمان الغنام من رؤساء عقيل.  

وقد تزامن وصول علي رضا إلى العراق مع إصابة الأخير بوباء الطاعون، إضافة إلى غرق أجزاء شاسعة من بغداد نتيجة فيضان نهر دجلة. وأمام ذلك، أيقن داود باشا أن ظروف الحرب ليست في صالحه، واستقر ومعه أعيان المدينة على مكاتبة محمود الثاني في إسطنبول يخبرونه بأن أمنهم قد سلب على يد رجاله، ويطالبونه بإعادة علي رضا باشا إلى حلب مقابل أن يقدموا للدولة العثمانية عشرين ألف كيس نقدية، ومضاعفة حصة بغداد من الضرائب من ألفين إلى أربعة آلاف كيس سنويا، والإبقاء على داود باشا، أو اختيار من يشاء.

ظن أهل بغداد أنه يمكنهم انتظار رد العاصمة العثمانية. ولكن الوصول السريع لـ علي رضا باشا أمام أسوار المدينة وقصفه إياها بتسع قنابل، كان سببا في الإجماع على القتال حتى النهاية. ووفقا للروايات التاريخية "اجتمع العلماء ووجوه البلد ورؤساء العسكر جميعا واتفقوا على أن لا يفترق الواحد عن الآخر، وأعدوا المدافع ولوازم المحاربة". 

أمطر علي رضا بغداد بطلقات المدافع من عدة جهات، من الثكنة الداخلية ومن جهة "بودر" في المضاربة ومن تلول الصابونية والجاووش، وفي محاولة يائسة لإسكات المدافع التي أشعلت المدينة بنيرانها، خرجت مجموعة صغيرة من العسكر البغدادي وهاجمت الثكنة الداخلية ودمرت ما بها بعد أن أجبرت الأتراك على الفرار، ونجحت قوات أخرى في هزيمة سليمان الغنام العقيلي ورفع الحصار عن باب الحلة. 

الانتصارات السابقة رغم أهميتها لم تغير من حقيقة الظروف القاسية التي عاشتها بغداد نتيجة الطاعون والشح في الأقوات والغلاء نتيجة الحصار، وفي وسط اليأس اتفق المماليك على ضرورة مهاجمة القوات العثمانية ليلا، لكن أحدهم ويدعى "درويش" عطل القرار بإصراره على انتظار رد إسطنبول قبل الهجوم الشامل.

خيانة 

وصل رد السلطان العثماني إلى علي رضا باشا، ولم تجد رسالة السلام التي أرسلها أهل بغداد أي صدى لديه، حيث أمر قائده إذا عجز عن دخول المدينة بالحرب باتباع الحكمة، ولم تكن تلك الحكمة تعني سوى المكر والخديعة.

على الفور، أخبر علي رضا باشا أهل بغداد أن السلطان رفض طلباتهم وأنه يجب عليهم التسليم فورا، فلما وجد أن المدينة مصرة على الصمود لجأ إلى الخيانة وشراء الذمم، وأرسل إلى مجموعة من المماليك يعدهم بالوظائف إذا ما تخلوا عن حراسة الأبواب، بينما تورط شخص يدعى السيد أحمد أفندي في خيانة رفاقه بمساعدة مجموعة من الأعوان، إذ أقدموا على طرد حراس الباب الشرقي، وسمحوا بدخول الخيالة الأتراك. 

تسارعت الأحداث بعد الخيانة، حيث دخل العثمانيون إلى داخل المدينة في نفس العام (1831)، ثم قبضوا على داوود باشا والذي قرر علي رضا إرساله إلى إسطنبول بدلا من قتله، لأن محمود الثاني كان يخشى أن يؤدي إعدامه إلى زيادة نفور محمد علي باشا في مصر من السلطنة العثمانية.

مذبحة المماليك والأهالي

بعد أن فرغ علي رضا من أمر داود، بدأ خطة التخلص من نخبة المماليك في بغداد، فبعد أن دخل إلى المدينة ركز على تأمين الأمراء وأغدق عليهم بالوظائف، ثم دعاهم في اليوم الثالث إلى الحضور جميعا للاستماع إلى الفرمان السلطاني. وأثناء الاجتماع، تحجج رضا بخروجه للوضوء بينما تولت مجموعات من الجلادين إعدام مئات المماليك فلم يبق منهم سوى اثني عشر شخصا- على الأكثر- أرسلوا جميعا إلى إسطنبول.

تفرغ رضا باشا بعد ذبح المماليك لأهل بغداد، ولما كان يخشى من تمرد عساكر الجيش العثماني ضده بسبب تأخر الرواتب فإنه خان وعده للسكان بالأمان، وأطلق يد العساكر في عمليات نهب واسعة، وكانت عقوبة كل من يعترض من العراقيين الإعدام الفوري.

نهب بغداد كان وسيلة علي رضا لرشوة الجند، فيما كانت مصادرة الأموال طريقته لإرضاء السلطان الذي كان ينتظر أن تمتلئ خزانته بالقدر الأكبر من خيرات العراق. وقد وصفت مصادرات الباشا والمظالم التي فرضها على أهل بغداد كانت بالشديدة القسوة، وصل فيها الأمر إلى التعرض للنساء وتعذيبهن، فضربت زوجة المملوك المقتول رضوان آغا بالفلقة، وكويت بالسيخ، كما أن العثمانيين "آلموا الأهلين كثيرا، بأمل تقديم مبالغ للجيب الهمايوني (السلطاني) وسد جشع الوالي وأعوانه". 

سياسات علي رضا الهمجية، وتجاوزه الحد في الظلم والاعتداء على الأرواح ونهب الأموال أدت إلى نفور أهل العراق من العثمانيين، حتى أصبح أهل بغداد يترحمون على زمن المماليك الذين كانوا أرحم بهم وأرأف من ولاة إسطنبول. وكما كتب المؤرخ العراقي عباس العزاوي، فإن عودة بغداد إلى حظيرة السلطنة لم يحسن من أوضاعها، بل جعلتها "أردأ وأتعس من ذي قبل"، ليكتب الشقاء على العراق والذي لم ينفك منه إلا بعد أن سلم الأتراك البلاد إلى محتل آخر هو إنجلترا في العام 1917، بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع