مجاعة الشام 1915.. حكاية مقتل 500 ألف عربي «جوعًا» على يد الأتراك

مجاعة الشام

مجاعة الشام

في روايته «الرغيف»، التي ظهرت طبعتها الأولى في العام 1939، يصف الأديب اللبناني توفيق يوسف عواد معاناة امرأة من ضحايا المجاعة الرهيبة التي عاشها أهل جبل لبنان أثناء العام 1915 فيقول: «امرأة شعثاء مستلقية على ظهرها رأسها مائل، غزا القمل جسدها، تعلق بها رضيع ذو عيون كبيرة. ومن صدرها برز ثدي ملأته الخدوش يعصره الرضيع بأصابعه الصغيرة و بشفتيه المتلهفتين ليهجره باكيا يائسا من ظهور الحليب».

مشهد المرأة اللبنانية البائس والذي فصله عواد، كان لوحة من عدة لوحات مأساوية شكلت سويا ما عرف تاريخيا بمجاعة الشام، والتي تسبب العثمانيون وغيرهم في وقوعها خلال الحرب العالمية الأولى، وضربت كامل ولاية سورية العثمانية، من حلب ودمشق إلى بيروت وجبل لبنان، وسقط خلالها ما يقرب من 500 ألف عربي من أهل الشام. 

سخرة وجراد وحصار

تبدأ مجاعة الشام بدخول العثمانيين الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا القيصرية في 29 أكتوبر من العام 1914، حيث بدأ القادة الأتراك في أعقاب ذلك التاريخ في تنفيذ سياسة واسعة تقوم على التجنيد الإجباري للعرب، وحشدهم بالسخرة، والسيطرة على مواردهم الاقتصادية، خاصة الزراعية لخدمة الجيوش العثمانية وإطعامها. 

كان نصيب الشام من تلك السياسة كبيرا، فقد خضع أبنائه مثل باقي الولايات العربية لحادث النفير العام، أو سفر برلك، والذي اقتيد خلاله الآلاف من أبنائه إلى الأناضول للمشاركة في معارك العثمانيين ضد أعدائهم من دول الحلفاء. وأضيفت إلى ذلك مصادرة جمال باشا السفاح، قائد الجيش الرابع العثماني في سوريا لمحاصيل الشام الزراعية، خاصة القمح، كي يصنع إمدادا غذائيا لجنوده المحاربين. 

لكن مأساة العرب الشوام لم تتوقف عند ذلك الحد من التسخير وسرقة المزروعات، بل زاد من حجم المصيبة فوق رؤوسهم هجوم الجراد الشامل على الأراضي السورية في أبريل من العام 1915، إذ أكل الجراد ما تبقى من المحاصيل التي لم تصادر، وقضى على الزرع في أضنة وحلب ودمشق ودير الزور وبيروت.

على تلك الصورة، لم يدخل العام التالي (1916) إلا وقد انخفض الإنتاج الزراعي للشام بنسبة 25% كاملة، كما ارتفع سعر القمح اللازم لصنع الخبز بصورة جنونية. و إمعانا في البؤس، فإن الأساطيل البريطانية والفرنسية فرضت حصارا خانقا على الموانئ السورية والفلسطينية واللبنانية لمنع وصول الإمدادات إلى القوات العثمانية في الشام. كما فرض جمال باشا حصارا في نفس الوقت من البر على جبل لبنان لمنع دخول القمح إليه، بسبب مخاوفه من التعاون العسكري بين اللبنانيين والفرنسيين، وهو ما أدى إلى تجويع كامل سكان المنطقة، خاصة أن الجبل لم يكن إنتاجه من المحاصيل الزراعية كافيا لإطعام سكانه إلا أربعة أو خمسة أشهر بالعام.

هكذا، بدأت سنوات الجوع في الشام والتي أهلكت عشرات الآلاف من أهله العرب. واليوم، لا تحتفظ الذاكرة التاريخية السورية بأعداد ضحايا تلك المجاعة، وإن كان حصر لضحاياها في حلب وحدها يؤرجح عدد الضحايا بين 60 و 80 ألف شخص. أما لبنان، فكانت أكثر حظا في توثيق أعداد ضحاياها خلال تلك المجاعة، حيث يصل هذا العدد إلى نحو 200 ألف، أي ثلث التعداد السكاني للبنان في ذلك الوقت. 

كما أن اللبنانيين احتفظوا كذلك على عكس السوريين بصور المآسي التي صاحبت المجاعة. والفضل في ذلك يرجع أولا إلى الذاكرة الشفاهية لأهل جبل لبنان والتي نقلت تلك الأحداث كابرا عن كابر. ثم إلى التوثيق الفوتوغرافي الذي قام به اللبناني ابراهيم كنعان نعوم، المدير المسؤول عن المساعدات الحكومية العثمانية في جبل لبنان، والذي صور لقطاته للجوعى والقتلى من أبناء بلده دون علم السلطات التركية. وأخيرا، إلى رواية الرغيف لـ توفيق يوسف عواد والتي لعبت دورا مهما في الإبقاء على مجاعة لبنان حية طازجة في ذاكرة النخبة المثقفة اللبنانية. وهو الحال نفسه مع قصيدة "مات أهلي" للشاعر اللبناني جبران خليل جبران.

المجاعة المُمَنْهجة

كان الجوع بطبيعة الحال أول صور المأساة التي عاشها اللبنانيون نتيجة السياسات العثمانية. ففي رسالة مؤرّخة بتاريخ 7 سبتمبر 1916، يؤكّد رئيس مدرسة عينطورة العازاريّة أنّ «المجاعة المُمَنْهجة لا تزال تفعل فعلها. يبيع الأتراك رطل الطحين بـ12 فرنكا، لكن اذا قرّر أحد شراءه، يستشعر الأتراك توفّر المال على الفور فيطلبون 30 فرنكا».

وكان الرغيف المخبوز المباع لأهل الجبل لونه أسود ومتيبس لا يصلح للأكل، ولذا فإن نساء بلدة رياق البقاعية تظاهرن يوما ضد جمال باشا السفاح ورشْقن سيارته بتلك الأرغفة.

ووفقا للمؤرخ اللبناني يوسف معوض فإن اللبنانيين كانوا «يتضورون جوعا ولم يكن بمقدورهم فعل شيء كما لم يقووا على المقاومة. وخرجوا يهذون في الشوارع ببطونهم المنتفخة». وبلغ بهم الجوع إلى حد أكل حيوانات الشوارع من الكلاب والقطط، بل أكل بعضهم لحوم البشر، حيث ينقل عن أحد الكهنة الجزويت (اليسوعيون) أن رجل من اللبنانيين أتاه واعترف بأنه قتل طفليه البالغين من العمر 8 و10 سنوات ليقتات منهما.

كذلك أصبح على النساء اللبنانيات المسير لمسافات طويلة بحثا عن أي طعام لأبنائهن. فينقل يوسف معوض عن الأب سليم دكاش، رئيس جامعة القديس يوسف، قصة جدته التي اضطرت لمغادرة قريتها، وفي الطريق فقدت طفلها الذي تركته على قارعة الطريق لتذهب للبحث عن خبز على مسيرة ثلاثة أيام سيرا على الأقدام لتطعمه.

وكما سافرت نساء الجبل بحثا عن الطعام، فإنهن قدمن الخدمات الجنسية للضباط الأتراك مقابل الطعام. فيروى أنّ عاملات الحرير كنّ يستخدمن معامل حل شرانق الحرير أمكنة لتسليم أجسادهن لقاء ما لا يكفي لسد الرمق. ومن هنا صارت مفردة «كارخانة» (معمل بالتركية والفارسية) تعني المبغى العمومي في التعبير اللبناني الدارج.

يتابع يوسف معوض: «مات اللبنانيون بسبب الإهمال الشديد والقاسي. والحصار البري هو ما زاد الطين بلة، فعلى إثر ذلك ارتفعت أسعار كل شيء، وكان الناس يهربون بجلدهم عابرين الحدود للمدن القريبة ليلاقوا حتفهم على الطريق أو من التسول في هذه المدن سواء أكانت دمشق أم طرابلس أو غيرهما».

وحتى بعد انتهاء الأزمة بانتهاء الحرب في العام 1918 وفك الحصار بعد هزيمة العثمانيين أمام الحلفاء، فإن وتيرة سقوط الضحايا في جبل لبنان لم تنحسر، إذ مات نحو 50 ألف شخص بفعل الأمراض والأوبئة مثل التيفوئيد والكوليرا.

هذه هي بعض التفاصيل الباقية عن مجاعة الشام وتداعياتها الثقيلة على الإنسان العربي هناك، وهي سواء في حجم الضحايا، أو في صور المآسي المصاحبة لها تتشابه كثيرا مع المذابح والإبادات الجماعية التي ارتكبها العثمانيون الأتراك خلال نفس الفترة، ضد شعوب الأرمن في شرق الأناضول، والآشوريين في شمال العراق، وهي كلها جرائم حرب لا تزال إلى اليوم في انتظار الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي، ومن ثم توقيع العقوبات على أحفاد مرتكبيها من الأتراك المعاصرين.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع