بمشاركة 6 دول.. شركات تركية تروج لصناعاتها الدفاعية في أنقرة
الرقيق الأبيض.. كيف أعاد «داعش» سياسة الاستعباد الجنسي لدى العثمانيين؟!

أرمنيات وأيزيديات
«خانوم» و«نادية»، الأولى أرمنية، والثانية إيزيدية. خانوم تعرضت للاغتصاب والاستعباد الجنسي من قبل الأتراك العثمانيين أثناء إبادة الأرمن في عام 1915، ونادية تعرضت للاغتصاب والاستعباد الجنسي من قبل مقاتلي تنظيم «داعش» أثناء مذابح الإيزيديين في عام 2014. باعدت السنوات التي تلامس المائة بين حكاية خانوم ونادية، وإن قاربت بين الحكايتين تفاصيل المعاناة المتطابقة، التي إن عكست، فهي تعكس تطابق أفعال المجرمين: العثمانيون و«داعش».
خانوم.. صاحبة الوشم
في إحدى ليالي شهر أبريل من العام 1915 ، كانت خانوم، صاحبة الاثني عشر ربيعًا نائمة في أحضان أمها داخل بيت ريفي صغير، يقع في إحدى البلدات الأرمنية شرق الأناضول (تركيا الحالية).
استيقظت خانوم، بعد منتصف الليل، فزِعة على أصوات طلقات نار مدوية، وصرخات قريبة. ولم تعثر الصغيرة على أمها بجانبها، فهرولت إلى الخارج باحثة عنها.
في الخارج، عثرت خانوم على أمها واقفة مع مجموعة كبيرة من نسوة البلدة. كن جميعًا في ملابس النوم، يعتري وجوههن الخوف، وتندفع من عيونهن أمارات الهلع. سمعت خانوم واحدة من الواقفات تتحدث عن هجوم الأتراك على البلدة بسلاح كثيف. ونهبهم بيوت الأثرياء وقتلهم الرجال فيها. ثم خطفهن النساء الجميلات من تلك البيوت. وبعد فراغهم، استداروا إلى بيوت الفقراء يقبضون على الرجال الواحد تلو الآخر، تاركين النساء والفتيات لمصير لا يختلف كثيرًا عن قسوة مصير نساء الطبقة المخملية.
لم يكد يمر وقت طويل، حتى خفت حدة إطلاق الرصاص. وظهرت أمامهن جياد تحمل فوق أظهرها جنودًا تبدت من وجوههم علامات الشر وسوء النية. كان هؤلاء أتراكًا من عصابات اسمها «النار والصاعقة»، وظفها العثمانيون للإجهاز على رجال الأرمن في مساكنهم، وتهجير من يتبقى من النساء والأطفال إلى الصحراء في الجنوب.
ترجل القائد من على حصانه، وتقدم إلى النسوة. أخبرهن بأن رجال البلدة أعدموا جميعًا بالرصاص. وأن على النساء والأطفال التجهز للرحيل معه من البلدة مع أول خيط في النهار. وبمجرد أن أنهى حديثه، أومأ إلى رجاله، فهجموا على الحاضرات، وانتزع كل منهم من أعجبته منهن، ثم اختلى بها داخل أحد بيوت القرية التي أضحت خاوية من رجالها.
انتزعت أم خانوم بتلك الطريقة، واغتصبت داخل بيتها. أما خانوم فقد كانت أكثر حظًا، وتركت في الخارج مع غيرها من الأطفال. وكانت في سنها الصغيرة عاجزة عن إدراك واقع جديد بات عليها أن تعيشه. تفقد خلاله الأب إلى الأبد، وتستمع فيه إلى صرخات الأم التي لا تجد لها من مغيث.
مع حلول الفجر، كان الجنود الأتراك قد فرغوا من فعلتهم، وحان وقت الرحيل. جمعوا النساء والأطفال في طابور طويل خارج حدود القرية. ورسمت «وشوم» من صلبان أرمينية، وأهلة تركية وغيرها من علامات، على وجوههن وأياديهن. كانت تلك الوشوم علامة لتمييز نساء الأرمن من سواهن، وتسهيل عمليات القبض على الواحدة منهن في حال الهرب.
رسم تركي غليظ القلب الوشم المذكور على كفي خانوم الصغيرة. ثم بدأت مع أمها وأختها الأصغر «لوسيا» رحلتهن الطويلة إلى الصحراء. سرن على أرجلهن عشرات الكيلومترات في حر قائظ، مع ماء شحيح، وطعام نادر. وكن كلما تقدمن، يشهدن سقوط المزيد من الضحايا، إما نتيجة للجوع أو العطش أو حتى الأوبئة.
ورغم أن الأرمنيات في تلك الأثناء الرهيبة قد تحولن إلى ما يشبه المومياوات، فإن ذلك لم يمنع الجنود الموكلين بخفارتهن حتى المنفى من التناوب على اغتصابهن، والعبث بجسد الواحدة منهن دون رادع.
تعرضت أم خانوم للاغتصاب عدة مرات بتلك الطريقة. بدت صابرة ورافضة للانتحار، فقط من أجل ابنتيها الصغيرتين. كان أملها الوحيد هو انتهاز الفرصة والهرب من ذلك الجحيم. وقد لاحت لها الفرصة أخيرًا.
في يوم من أيام المسير المهلك، كان الجمع قد وصل إلى قرية على ضفاف الفرات. استغلت والدة خانوم انشغال الجنود الأتراك عنها، وذهبت إلى صياد كردي كان يملك قاربًا في القرية. وطلبت منه مساعدتها في العبور إلى الضفة المقابلة من النهر، للهروب مع طفلتيها إلى حلب. وافق الرجل وضرب معها موعدًا للهرب.
وفي الموعد قفزت مع خانوم ولوسيا إلى قارب الكردي، وبدأ الأخير في التجديف سريعًا إلى قلب النهر. علم الجنود الأتراك بوجود حالة هروب فأسرعوا إلى الشاطئ، وبدأوا في إطلاق الرصاص على المركب. ولكن الصياد الكردي كان بارعًا، وتمكن من الابتعاد عن مرمى رصاصاتهم القاتلة.
أخيرًا، أصبحت والدة خانوم في أمان هي وبناتها. أو هكذا ظنت. فبعد أن جن الليل، تبين للمرأة التي عانت كثيرًا أن العالم يخبئ لها سببًا جديدًا للشعور بالبؤس والتعاسة. فالصياد الكردي، التي ظنته منقذًا، تبين أنه لا يقل إجرامًا عن أولئك الذين خلفتهم هناك، على الضفة الأخرى من النهر.
لقد أقدم الصياد تحت جنح الظلام على اغتصاب الطفلة خانوم. هكذا، كانت المأساة في أوجها. فبعد أن أفلتت صاحبة الاثني عشر عامًا من ذئاب الترك في بلدتها، ثم من مسيرات النفي. كان موعدها مع هتك عرضها في اللحظة التي استشعرت فيها أخيرًا الأمان.
ظلت صرخات خانوم تملأ فضاء الفرات، دون أن تتمكن الأم من إغاثتها. بعد أن خشت أن يقدم الصياد على قتلهن جميعًا دفعة واحدة لو هي منعته عن إيذاء ابنتها. صبرت الوالدة حتى أتى الصباح، وانتهت رحلتها مع الرجل الذي أوصلها وبناتها إلى النقطة التي أرادتها تمامًا. ولكن بعد أن قبض ثمن إحسانه من جسد ابنتها.
مر كل شيء بعد ذلك سريعًا. وصلت والدة خانوم إلى حلب السورية. ومن هناك تواصلت مع أقارب لها في بيروت. ولم يكن غير وقت قصير حتى كانت مع بناتها مستقرة في لبنان، تحاول أن تجمع شتات نفسها التي حطمت على يد الأتراك.
أما خانوم الصغيرة، فلم تنس قط ما وقع لها في القارب، وما قبل القارب. كانت تستشعر عارًا وخزيًا يكبر معها كلما تقدمت في السن. كرهت الجنس والتواصل مع الرجال. ولكنها كانت مجبرة على الزواج من أرمني في بيروت أنجبت له الأولاد الذين رغب فيهم. ثم استمرت بعد ذلك بعيدة عنه. تستمع إلى أغنيات فريد الأطرش وحيدة عبر المذياع. وتحك أصابعها كل يوم لمحو الوشم التركي، الذي أصبح رمزًا للعار، ولكن دون جدوى.
نادية مراد... في سوق النخاسة
في 15 أغسطس من عام 2014، كانت الفتاة الإيزيدية نادية مراد في التاسعة عشرة من عمرها، حين اقتحم مقاتلو «داعش» قريتها الصغيرة "كوجو"، إحدى القرى التي تشكل معقل الإيزيديين التاريخي في قضاء سنجار بشمال العراق.
كان هجوم «داعش» على قرية نادية صاعقًا كما وصفت هي. ففي خلال ساعة، فقدت الفتاة الشابة أكثر من 300 طفل وامرأة ورجل من أهل قريتها. ورأت بأم عينيها مقتل ستة من إخوتها الذكور لأنهم رفضوا اعتناق الإسلام. كما رأت أيضًا مقتل والدتها على يد الإرهابيين، أما من بقوا على قيد الحياة ونادية واحدة منهم، فقد تم ترحيلهم إلى الموصل، التي كانت في ذلك الحين المعقل الرئيس لتنظيم الدولة في شمال العراق.
ظلت نادية ثلاثة أشهر أسيرة لدى مقاتلي «داعش». عوملت خلالها كجارية مستعبدة جنسيًّا، تغتصب وتهان وتعذب مع نحو خمسة آلاف من النساء الإيزيديات الآخريات. ثم تم إهداؤها أخيرًا لأحد مقاتلي «داعش»، قام هو أيضا بإهانتها وتعذيبها يوميًّا. وعندما حاولت الهروب لأول مرة جرى عقابها، بوضعها في غرفة مع إجبارها على خلع ملابسها. وكان المقاتلون يعتدون عليها جنسيًّا مرارًا وتكرارًا حتى تفقد الوعي.
وبعد أشهر من العذاب، نجحت نادية أخيرًا في الفرار إلى ألمانيا. ومن هناك، قامت بجولات عدة بين دول العالم للتعريف بمأساة الإيزيديين، والنساء منهن تحديدًا. على أمل أن يعترف العالم بأن ما وقع لتلك الإثنية القديمة في شمال العراق هو فعل «إبادة جماعية» يستوجب مساعدة من تبقى من أفرادها على العودة إلى ديارهم التاريخية.
من العثمانيين إلى «داعش»
الاستعباد الجنسي واحد من عدة مشتركات جمعت ما بين العثمانيين وتنظيم الدولة الإسلامية، إلى جانب الإبادة الجماعية، والتعذيب البدني والنفسي، والتدمير العسكري واسع النطاق.
على الرغم من تحريم الإسلام لاستعباد الناس واسترقاقهم، اللهم إلا في حالة الحرب، فإن العصور الوسطى شهدت رواجًا واسعًا لتجارة الرقيق في الممالك الإسلامية المختلفة. وبلغت تلك التجارة أوجها في العصر العثماني، خاصة مع رغبة السلاطين من آل عثمان في تكوين جيش من العبيد الذين جيئ بهم من البلقان خصيصًا، ليكونوا جيشًا رسميًا للدولة، يخلص في ولائه لها، بدلا من القبائل التركمانية متقلبة الولاء.
أما على مستوى النساء، فقد بلغ الاسترقاق الجنسي كذلك مستويات عالية في العصر العثماني. وكان «الحرملك»، أو مؤسسة الحريم في القصر العثماني، يحوي آلاف الفتيات اللاتي تم خطفهن وبيعهن في أسواق الرقيق كـ«سبايا». وكان يتم تقسيمهن في القصر إلى صنفين، الأول يشبع رغبات السلطان في فراشه. والثاني مهمته خدمة السلطان في قصره.
الصنف الأول، كان هو نفسه الذي خرجت منه كل السلطانات اللاتي سيطرن على السلطنة العثمانية في عصر «سلطنة الحريم». وقد كانت الفتاة المخطوفة والمختارة لتكون محظية من محظيات السلطان مجبرة على أن تنام مع السلطان على فراشه بالقوة، وإلا كان عقابها الموت. ووحدها السلطانة الشهيرة «خرم»، أو (روكسلانا)، رفضت أن تمارس الجنس مع السلطان سليمان القانوني إلا بعد أن يتزوجها رسميًّا. وقد قبل القانوني ذلك، كاسرًا قاعدة عثمانية بتحريم زواج السلاطين منذ انتحار بايزيد الأول في العام 1403.
كانت رحلة الفتيات المسترقات، تبدأ في سوق النخاسين بإسطنبول، والذي كان مكانه يقع قديمًا في المنطقة المعروفة باسم «طاووق بازار» (سوق الدواجن)، بين جامع نوروز مانيا، وجامع عتيق علي باشا. الجميلات من الواصلات حديثًا إلى السوق، كان يتم عرضهن أولا على السلطان لينتقي منهن من يحب ويضمهن إلى حريمه. كما كان كبار رجال الدولة العثمانية، يقبلون على شرائهن لتقديم أي منهن كهدية إلى السلاطين.
وفي عام 1846، وتحت تأثير التنظيمات العلمانية التي شرع فيها السلطان عبد المجيد الأول، أغلق سوق النخاسة في نوروز مانيا. ولكن تجارة العبيد ظلت مستمرة في الحقيقة. فقد استمر بيع المسترقات من الشركسيات داخل سوق للرقيق بمنطقة الفاتح، وبيع معهن في نفس المكان مسترقات من أفريقيا السوداء.
وبعد انقلاب عام 1908، الذي قامت به جمعية «الاتحاد والترقي» ضد السلطان عبد الحميد الثاني. كان من المفترض أن تختفي تجارة الرقيق إلى الأبد، خاصة في ظل التنظيرات العلمانية والحداثية التي ظل يتشدق بها الاتحاديون. ولكن الممارسات الفعلية، أثبتت أن تلك الدعاوى كلها كانت قشرة زائفة، تخبئ أسفلها نفس الوحشية العثمانية القديمة.
كانت إبادة الأرمن عام 1915، هي التي كشفت حقيقة حكام إسطنبول الجدد. فقد عمد الاتحاديون إلى التخلص من الأرمن في شرق الأناضول، خوفا من إقدام الأخيرين على مساعدة روسيا القيصرية أثناء الحرب العالمية الأولى.
الإبادة أدت لمقتل نحو مليون ونصف المليون أرمني في مدة يسيرة. وكانت وسائل الإبادة متنوعة. بين الإعدام بالرصاص، والحرق أحياء، والإغراق في نهر الفرات، والحقن بالتيفود، أو التعريض لغاز «التوكسيك» السام.
إلى جانب تلك الوسائل التي استهدف بها الأتراك «رجال» الإثنية الأرمنية، كانت النساء الناجيات من الإبادة عرضة للاستعباد الجنسي من جانب الضباط والجنود الأتراك المنفذين لتلك الجريمة الكبرى. وهناك شهادات متواترة، تؤكد تحويل الأرمنيات الجميلات إلى سبايا، ومعاملتهن من قبل آسريهن من ضباط الجيش العثماني كـ«محظيات»، على الواحدة منهن أن تنفذ طلبات «سيدها»، وإلا كان عقابها الموت.
هكذا، أبقى الاتحاديون على واحدة من أقدم صور الاستعباد في التاريخ البشري دون تغيير. وتحولت الوشوم التي رسمت على وجوه الأرمنيات وأكفهن أثناء ذلك، إلى رمز للعبودية الجنسية التي عاشتها كل أرمنية مع سيد تركي، بالقوة القاهرة.
من هذه الزاوية، تصبح سلوكيات «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» بمثابة إعادة إنتاج للتصرفات العثمانية أثناء إبادة الأرمن. فمنذ اجتاح مقاتلو التنظيم مساحات شاسعة من شمال العراق وشمال سوريا في عام 2014، وهم يقدمون على تصرفات وحشية تشبه تلك التي أقدم عليها الاتحاديون قديما، من الإبادة العرقية، أو الإعدام بالحرق، وأخيرًا استرقاق الأسرى وبيعهم في أسواق النخاسة التي أعيد إحياؤها.
«تنظيم الدولة الإسلامية» قام بسبي مئات الفتيات والنساء الأيزيديات في أعقاب الهجوم على سنجار، وعرضوهن في سوق النخاسين. وفيه تم بيع وشراء الأيزيديات كـ«سبايا». وقام المقاتلون بإنشاء قاعدة بيانات لجميع النساء المسترقات، بما في ذلك صور لهن، لتوثيق من اشتراهن ولضمان عدم هروبهن. وهذا التصرف الأخير يبدو مطابقًا لوشم الأرمنيات الذي قام به الأتراك في العام 1915، ولكن بصورة أكثر حداثية.
ومن المثير حقا، أن الفتيات الأيزيديات اللاتي تعرضن لذلك الفعل في عام 2014، تم الإبلاغ ببيع الكثير منهن في أسواق للرقيق داخل تركيا نفسها، وليس في المناطق الخاضعة لتنظيم الدولة بسورية أو العراق فقط. وكأن الأتراك أبوا إلا أن يعيدوا فعلتهم الأولى التي تضررت منها أمثال الأرمنية «خانوم»، في آخريات من أمثال الإيزيدية «نادية».
شاركنا بتعليقك
تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع