علي بن غذاهم.. النسخة العثمانلي من ثورة بوعزيزي في تونس

علي بن غذاهم

علي بن غذاهم

في ربيع عام 1864، كانت تونس على حافة الانهيار. اقتصادها متآكل، وجهازها الإداري فاسد مترهل تحكمه المحسوبية والرشوة، ومشكلاتها الاجتماعية عميقة، نتيجة اقتصار التحديث على المدن الساحلية دون الدواخل، والتي عاش فيها أبناء القبائل التونسية حياة فقر وإملاق.

وسط هذا الاضطراب الشامل، لجأ محمد صادق باي حاكم تونس، الذي كان يدير البلاد باسم السلطنة العثمانية إلى زيادة الضرائب المفروضة على أفراد الشعب التونسي لملء خزانته الخاوية، وتقليص العجز في ميزانية الدولة. ولأن هؤلاء كانوا يعانون سلفًا من موسم جفاف قاسٍ أثر على إنتاجهم الزراعي، فقد أعلنوا رفضهم الزيادة الجديدة في مقدار الجباية، وأعلنوا الثورة ضد الباي، وكان شخص منهم يدعى علي بن غذاهم هو من قادهم خلال تلك الثورة تاركا، رغم فشله الختامي، أعمق الأثر في الذاكرة الوطنية التونسية.

 

الزيتوني

هو علي بن محمد بن غذاهم الماجري، ينسب إلى قبيلة ماجر البربرية. ولد في عام 1814 وتلقى العلم في جامع الزيتونة بتونس، وهو ما منحه لقب «زيتوني»، كما تعلم الطب والقضاء من والده الشيخ محمد بن غذاهم.

التكوين الشرعي لعلي بن غذاهم أهله أن يعمل عدلًا يقوم على فض النزاعات القضائية في مدينة إفريقيا (القصرين حالياً). ولا توجد في المصادر أي شواهد على اشتراكه في أنشطة سياسية بتونس قبل أن يشعل ثورته في عام 1864. وإن كان انصياع القبائل له أثناء تلك الأخيرة يوحي بأنه كان معروفًا بينها بالاطلاع على الأوضاع السياسية في البلاد.

 

الثورة

على أي حال، فبمجرد أن أعلن محمد صادق باي عن الزيادة في الضرائب المفروضة على التونسيين كان علي بن غذاهم سباقًا إلى جمع زعماء القبائل ودعوتهم لرفض تلك الزيادة، ورفع السلاح في وجه الباي لإنهاء الظلم الذي يعانيه الناس، فوافقوه. وكان قرار الباي باستثناء المراكز الحضرية على الساحل التونسي من تلك الزيادة هو ما زاد من حجم الحنق في نفوس الجميع، ويسر من مهمة بن غذاهم في حشدهم.

اندلعت على تلك الصورة ثورة علي بن غذاهم، التي اشتركت فيها القبائل التونسية بكثافة. وشعر صادق باي بأنه مأخوذ لا محالة، وأن دولته ستنهار في ظل الضعف العام لقواته العسكرية، وبالتالي فإنه لجأ إلى سياسة فرق تسد الكلاسيكية لتمزيق الوحدة التي كانت عليها أطراف الثورة، عن طريق اللعب على الإحن القبلية والثأرات القديمة بينهم، الأمر الذي أتى أكله وأنتج اشتعال الحروب الداخلية بين القبائل بدلا من توجيه الجهود كلها ضد قصر باردو الذي كان يحكم منه صادق باي تونس. ثم جاء موسم الحصاد في شهر مايو من عام 1864، ليكمل حالة الانحسار في ثورة علي بن غذاهم، حيث فضلت غالبية القبائل العودة إلى أراضيهم الزراعية لحصد المحصول بدلا من مواصلة القتال، وهو ما جعل بن غذاهم في الأخير وحيدًا في الميدان اللهم إلا من بعض الأتباع الذي واصلوا الاصطفاف خلفه.

 

الاستسلام والغدر

لكن علي بن غذاهم أدرك أن هزيمته على يد الباي صارت حتمية فقرر الفرار إلى الجزائر. وفي تلك الأخيرة، فرضت عليه السلطات الفرنسية الإقامة الجبرية في قسنطينة. ولكن الأمل عاد إليه مرة أخرى في العودة إلى تونس وحشد القبائل لإشعال الثورة من جديد، فتسلل إلى تونس واحتمى بأهله في جبل الرقبة. ومن هناك أدرك بعد عدة مراسلات مع زعماء القبائل أنه لن يتمكن من توحيد صفوفهم مرة أخرى، فطلب من محمد العيد التماسيني شيخ الطريقة التيجانية، أن يتوسط لدى الباي محمد صادق كي يحصل منه على قبول بالتفاوض، فوافق التماسيني وانتزع بالفعل من حاكم تونس قبولًا بالتفاوض مع علي بن غذاهم.

وكدليل على ذلك، أرسل الباي إلى علي بن غذاهم سبحة الأمان التي تدل على قبوله بالمفاوضات مع ضمان أمنه الشخصي. ولكن بن غذاهم بعد أن تسلم السبحة فوجئ برجال الباي يقبضون عليه ويزجون به في سجن كراكة حلق الوادي سنة 1866، حيث سيظل حبيسًا به حتى وفاته في 10 أكتوبر من عام 1867.

 

لن يعرفَ له قبر

رفعت النهاية المأساوية لعلي بن غذاهم من أسهمه في أوساط التونسيين، خاصة أنها جاءت نتيجة غدر الباي به بعد منحه أولا الأمان. ولذلك خشي محمد صادق من أن يثير تشييع جثمان علي بن غذاهم الثورة من جديد في البلاد، فأمر بمواراة جسده دون حضور الناس، ثم أمر ببناء أحد أعمدة برج شكلي ببحيرة تونس فوق رفاته، كي يمنع من تحويل قبره إلى مزار.

ولم يكتف محمد صادق بذلك بل عمد إلى القضاء على سلالة علي بن غذاهم، حتى لم ينج منها سوى زوجته خديجة التي كانت من قبيلة الهمامة، وتمكنت من الفرار بابنيها إلى الخليدية في أحواز العاصمة، ومنها تنحدر السيدة منوبية بن غذاهم حفيدة الثائر علي، التي تعيش في تونس إلى اليوم، وتحتفظ بسيرة جدها للأجيال التالية.

 

2011.. استعادة الثورة

عندما اندلعت الثورة التونسية في شتاء عام 2011 للإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي، استعادت الذاكرة الوطنية في تونس ثورة علي بن غذاهم من جديد إلى الواجهة، خاصة مع تشابهها مع ثورة تونس الجديدة، سواء على مستوى البدايات، حيث يشبه رفض بن غذاهم دفع الضرائب في عام 1864، رفض محمد بوعزيزي بائع الخضروات البسيط دفع الضرائب للبلدية في تونس عام 2011، ومن ثم إحراقه لنفسه على سبيل الاحتجاج، الأمر الذي كان شرارة الثورة في البلاد. كما تتشابه الثورتان على مستوى الأهداف، حيث سعت كل منهما للتخلص من المظالم الاجتماعية والمفاسد المالية وعمليات التحديث المنقوصة التي كان العثمانلي سببًا فيها قديمًا، وزين العابدين بن علي سببًا فيها حديثًا.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع