كوسم.. حكاية سلطانة حكمت تركيا 50 سنة وماتت خنقًا

إعدام السلطانة كوسم 3 سبتمبر 1651

إعدام السلطانة كوسم 3 سبتمبر 1651

في تاريخ سلطنة الحريم، الذي سيطرت فيه الجواري على الدولة العثمانية وتحكموا في مصائرها، تنفرد السلطانة كوسم بأمور ميزتها عن كل السلطانات السابقات عليها، فقد بقيت في السلطة المدة الأطول زمنيًّا بنحو نصف قرن تقريبًا، كما أنها حصدت النفوذ الأوسع والثروة الأكبر، وأخيرًا كانت هي الخاتمة في ذلك العصر، بمقتلها انتهت سلطنة الحريم ودخلت الدولة العثمانية في طور جديد من تاريخها الطويل.    

 

الأولية

ولدت كوسم لأصل يوناني في جزيرة تينوس حوالي العام 1590، وكان اسمها الأصلي هو أنستاسيا. وفي إحدى حملات القرصنة العثمانية على الجزر اليونانية، وقعت في أسر حاكم البوسنة، فأرسلها نظرا لجمالها الفائق كهدية إلى قصر طوب كابي في إسطنبول، والذي كان يحكم منه سلاطين آل عثمان الدولة. 

ألحقت أنستاسيا على الفور بالحرملك داخل القصر، وأدخلت الإسلام قسرًا ثم غُير اسمها إلى كوسم، وأهديت إلى السلطان أحمد الأول الذي وقع في هواها سريعًا وأطلق عليها اسم "ماه بيكر" أي وجه القمر. ولأن العصر كان عصر الجواري، لا عصر الرجال، فقد استدلت كوسم بهوى السلطان وبدأت مبكرًا في التخطيط لأن تتحكم فيه وتحكم الدولة من ورائه، وهو ما وضحت آثاره عندما أبدى السلطان أحمد إصرارًا على الزواج بـ"كوسم" على غرار زواج السلطان سليمان القانوني من محظيته خرم أو روكسلانا. 

أبدت السلطانة الكبرى صفية، والتي كانت تسيطر على الدولة العثمانية في ذلك الوقت، ومعها السلطانة الوالدة هاندان، أم السلطان أحمد، اعتراضا عنيفا على ذلك الزواج الذي من شأنه تقليص نفوذهن. ولكن أحمد الأول مضى في زواجه غير مكترث باعتراض جدته أو أمه، ومنح كوسم لقبًا جديدًا هو السلطانة القائدة. ومن جانبها ردت كوسم الجميل بإنجابها اثنين من الذكور للسلطان، هما مراد (لاحقا السلطان مراد الرابع)، وإبراهيم (لاحقا السلطان إبراهيم الأول). 

 

حرب الحريم تبدأ

عاشت كوسم حياة هانئة مع زوجها السلطان حتى توفي الأخير فجأة في نوفمبر من العام 1617 وهو لم يجاوز الثلاثين من عمره، فقررت أن تشعل حربًا في القصر كي تصعد ابنها الصغير مراد حتى لا يتلاشى نفوذها وينتهي بها الحال منفية في قصر الدموع الذي كان يضم كل السلطانات اللاتي انتهت حيوات سلاطينهم. 

بدأت كوسم حربها برفض تولية السلطنة للأمير «عثمان» ابن ضرتها وعدوتها السلطانة «خديجة ماه فيروز». واستعانت بشقيق زوجها الأمير «مصطفى» الذي اشتهر بخفة عقله وطيشه، فنصبته سلطانا بمعاونة قادة الإنكشارية حتى ينتهي هؤلاء من حسم خلافاتهم حول أي من أبناء أحمد الأول أحق بالسلطنة، عثمان بن خديجة، أم مراد بن كوسم. 

حقق وصول السلطان مصطفى إلى العرش أغراض كل من كوسم والإنكشارية، إذ أصبح الطرفان يحكمان الدولة فعليا دون السلطان واهن العزم وضعيف الشخصية. وأطلق يد السلطانة كوسم سلطان داخل الحرملك لتصبح سيدته الأولى بلا منازع. كما بلغ تدخلها في شؤون السلطنة مبلغًا عظيمًا حين أصبحت تدير بنفسها جلسات الديوان وتضع السياسات العليا للدولة. 

ولكن سلطنة «مصطفى الأول» لم تدم أكثر من 3 أشهر، بويع بعدها الأمير عثمان بالسلطنة تحت اسم عثمان الثاني، وهو ما كان يعني هزيمة كوسم. لكن الأخيرة لم تستسلم، فعقدت حلفا مع قادة الانكشارية من المخلصين لها وقررت الانقلاب على عثمان الثاني، والذي أبدى همة عالية -رغم صغر سنه- في تقليص نفوذ الحرملك. وقد بدأت كوسم مؤامرتها بقتل السلطانة خديجة ماه فيروز في العام 1621، ثم أمرت بإعدام السلطان عثمان في مايو من العام التالي 1622. 

عاد السلطان «مصطفى الأول» على إثر ذلك إلى الحكم كفترة انتقالية حتى يستطيع «مراد» أن يدير شؤون الدولة العثمانية، لكن «مصطفى الأول» لم يستطع إدارة شؤون البلاد وعمت الاضطرابات والانقسامات، واتفقت كوسم مع الصدر الأعظم وبقية الوزراء على تدارك الموقف وعزل «مصطفى»، وتولية ابنها «مراد» الحكم، وكان وقتها يبلغ من العمر 11 عاما، وحصلت كوسم على لقب «السلطانة الأم» وأدارت البلاد بصفتها نائبة السلطان.

 

مراد يقصي أمه

وبينما ظنت كوسم أنها انفردت أخيرًا بالسلطة، جاءتها الضربة هذه المرة من ابنها نفسه السلطان مراد الرابع. ففي عام 1632، انتهت فترة نيابة السلطانة كوسم، والتي دامت نحو 9 أعوام، وأقصاها ابنها من المشهد السياسي سريعا، بعد أن قرر ألا يسمح لأية قوة كانت بالتدخل في إدارته للبلاد، وأمر والدته بأن تقطع اتصالاتها برجال دولته، وهددها بالإقصاء والنفي بعيدًا عن العاصمة إذا لم تستجب لأوامره.

أعقب ذلك انتهاج السلطان مراد سياسة وحشية في قمع خصومه لإظهار بأس السلطنة من جديد. وعندما علم بتدبير أمه المؤامرات على عادتها لتصعيد شقيقه إبراهيم بدلا منه إلى العرش، قرر مراد التخلص منه، ولكن كوسم نجحت في إثنائه عن ذلك. وتوفي مراد الرابع نفسه في تلك الأثناء عام 1640 دون أن يترك وريثا له، ما فتح المجال أمام كوسم للعودة إلى السلطة من جديد. 

 

إبراهيم المجنون

على الفور، أمرت كوسم بمبايعة ابنها إبراهيم بالسلطنة، وكان الأخير وبسبب الضغوط النفسية التي عاشها خلال عهد أخيه مراد، قد أصابه مس من الجنون، حتى أطلق عليه لقب إبراهيم المجنون، ففرضت كوسم سيطرتها بذلك على شؤون الدولة دونه. 

ولكن مع مرور الوقت، تدارك السلطان «إبراهيم» أمره وحاول استعادة سلطته المغتصبة، وهدد أمه السلطانة كوسم بالنفي في حال لم تتوقف عن التدخل في الحكم، ما أغضبها كثيرًا وقررت ألا تتنازل عن نفوذها وسلطاتها. وكانت ترى أن إزاحة ابنها السلطان الذي هددها صراحة بالنفي، ستعود عليها بالفائدة لأن حفيدها ولي العهد الأمير محمد شاه زاده طفل لم يتجاوز عمره السادسة بعد، وفي حال توليه السلطنة فستعين السلطانة «كوسم سلطان» في منصب نائبة السلطان وتصبح من جديد على قمة هرم السلطة العثمانية بلا منازع.

ومن جديد، تحققت رغبة السلطانة الأم ونجحت المؤامرة في إزاحة ابنها السلطان إبراهيم من فوق العرش، وأعدم بعد عزله بـ10 أيام في 18 أغسطس 1648، ولم تكتف بخلع ولدها بل سلمته إلى الجلاد ليقتله. وتحقق بذلك حلمها في الحصول مجددا على منصب نائب السلطان بصلاحيات غير مسبوقة، بعدما تم تعيين ابن السلطان القتيل، الطفل «محمد الرابع» الذي لم يبلغ بعد الـ7 من عمره سلطانًا، وحصلت والدته «خديجة تارخان»، التي كانت تكره «كوسم سلطان»، على لقب «السلطانة الأم».

 

الخاتمة.. أخيرًا

دخلت كوسم في هذه المرحلة الأخيرة من حياتها في عداء استمر لثلاث سنوات ضد «خديجة تارخان»، وكعادتها، قررت كوسم الانقلاب على محمد الرابع، وقتله ثم الإتيان بحفيد آخر هو الطفل «سليمان» لتحكم الدولة من ورائه. ولكن السلطانة «خديجة تارخان» كشفت مخطط «كوسم سلطان» مبكرًا، وقررت أن تريح الدولة منها نهائيا، آمرة باغتيالها بمساعدة رئيس أغوات الحرملك. وفي ليلة 3 سبتمبر 1651، دخل العبيد جناح السلطانة كوسم ونفذوا فيها حكم الإعدام خنقًا، لتلقى حتفها وهي في الـ62 من عمرها، وينتهي عصر سلطنة الحريم إلى الأبد.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع