بمشاركة 6 دول.. شركات تركية تروج لصناعاتها الدفاعية في أنقرة
أول بلد عربي يتخلص من العثمانيين.. حكاية اليمن «مقبرة الأناضول»

العثمانيون يطردون العسكر البرتغالي من عدن 1548
كتب: خالد أبو هريرة
بطبيعته الجبلية القاسية، وبأس رجاله في الحرب، استعصى اليمن على العثمانيين الأتراك كما استعصى على غيرهم، حتى أصبح أول بلد عربي ينال استقلاله عن الحكم العثماني، وينأى بنفسه عن تلك المظالم التي ضرب بها الأتراك عواصم العرب.
وحكاية الغزو العثماني لليمن، ثم الثورة اليمنية ضد سيادة إسطنبول، والتي لم تتوقف طوال ما يقارب المائة عام (1538 - 1635)، فيها ما يستحق أن يروى على المسامع العربية اليوم، ففيه رؤية باكرة وواعية من أهل اليمن لضرورة أن يحافظ على استقلاله عن سلطة العثمانيين، والتي لم يكن في أهدافها يوما ما تطوير البلدان التي تغزوها بقوة السلاح، بقدر ما كان همها الدائم الاستحواذ على ثروات الشعوب العربية، ونقلها إلى العاصمة المطلة هناك على ضفاف البسفور.
في المخطط العثماني للتوسع داخل العالم العربي، والذي وعه السلطان سليم الأول فاتحة القرن الـ 16 الميلادي، كان في نية الأتراك بعد غزو مصر والشام، وإسقاط حكم المماليك الشراكسة، الانتقال العسكري السريع إلى اليمن والسيطرة عليه، ثم اتخاذه قاعدة لمحاربة البرتغاليين في مياه بحر العرب والمحيط الهندي، وحرمانهم من الاستحواذ على ثروة الهند، واحتكار نقل تجارتها إلى أوروبا، ما كان يعني إماتة الدور الاقتصادي للشرق المسلم كواسطة بين الشرق والغرب.
نجح سليم في إنفاذ الجزء الأول من الخطة، فدخل الشام ومصر غازيا مظفرا بين عامي 1516 و 1517. ثم تحقق له الجزء الثاني المتعلق باليمن دون عناء. فبدون قتال أو إرسال حملات عسكرية، قام أمراء المماليك المتواجدين في صنعاء، وكانوا يحكمون اليمن باسم مماليك القاهرة، بإعلان طاعتهم للسلطنة العثمانية، والخطبة باسم سليم الأول فوق منابر اليمن.
لكن الإعلان المملوكي ظل مفعوله قاصرا على المناطق التي كانت خاضعة سابقا لسيادة المماليك، في السواحل اليمنية، وكذلك في المناطق المنبسطة الوسطى من اليمن. أما المرتفعات الشمالية القوية، والتي كان يحكمها الأمراء الزيديون بزعامة الإمام شرف الدين، فقد رفضت أن تعلن خضوعا لإسطنبول. ولكنها في نفس الوقت لم تخض صراعا بسبب ذلك، لأن العثمانيين ظلوا مكتفين بطاعة المماليك، دون إرسال حملة عسكرية إلى اليمن تؤكد التواجد العثماني فيه.
لكن ذلك لم يلبث أن انقطع مع عزم السلطان سليمان القانوني على غزو اليمن عسكريا وضمه بصورة كاملة للسلطنة في ثلاثينيات القرن الـ 16. ففي العام 1538، أرسل السلطان قائده سليمان باشا الخادم، وكان واليا على مصر، في حملة عسكرية كبيرة على الهند لطرد البرتغاليين منها. ولكن الحملة باءت بالفشل بعد إخفاق الخادم في إسقاط قلعة ديو، المقر الرئيسي للوجود البرتغالي في الهند.
أعقب فشل سليمان الخادم عزمه أثناء العودة إلى مصر استخدام قوته الحربية في احتلال اليمن. وتمكن بالفعل من السيطرة على شحر وتهامة وزبيد التي رفعت فوقها الرايات العثمانية، كما تركت فيها لأول مرة حاميات عسكرية أصيلة تابعة لإسطنبول.
توازى مع الدخول العثماني الرسمي للبلاد، اندلاع الحرب الأهلية في المرتفعات الشمالية حيث الأمراء الزيدية، وهو ما حاول الأتراك استغلاله لصالحهم والوصول من خلاله إلى الشمال اليمني الوعر.
ففي ذلك الوقت، عمد الإمام شرف الدين الزيدي إلى تقسيم مناطق اليمن بين أولاده ما جعل ولده المطهر - وكان أقواهم - يغضب منه، فقام بتأليب القبائل ضد والده في بداية العام 1540. ثم تفجر الصراع بين شمس الدين بن شرف الدين وأخيه المطهر بن شرف الدين. وعندما وصلت حملة عثمانية جديدة إلى اليمن بقيادة عويس باشا في العام 1546، تحالف المطهر مع الأتراك ضد شمس الدين وطالبهم بالقضاء عليه.
فهم عويس باشا أن المطهر يريد القضاء على سلطة والده وأخيه، فتوجه إلى تعز واستولى عليها في العام نفسه (1546) بعد معارك ضارية، ثم توجه إلى ذمار لمحاصرة صنعاء. وأثناء الحصار، دخل عويس في صراع ضد ضباط الانكشارية من المرافقين له في الحملة، وانتهى الأمر بمقتله على أيديهم وتصعيد واحدا منهم ويدعى أزدمير إلى ولاية اليمن العثماني. وكان ذلك مطلع العام 1547.
أمام تلك التطورات، شعر الإمام شرف الدين بخطورة الأوضاع وأنه لا مجال له لمواجهة الجيوش العثمانية الزاحفة من جنوب صنعاء. لذلك، عقد الصلح مع ولده المطهر وتخلى له عن الإمامة.
بعد أن حقق المطهر الانتصار في حربه الأهلية، أعلن خروجه من التحالف مع العثمانيين، وعقد العزم على دخول الحرب ضدهم منعا لوصولهم إلى مناطق النفوذ اليمني في الشمال. وقد بدأ باستغلال ظروف العثمانين المضطربة خصوصا بعد مقتل عويس باشا، ولكن أزدمير باشا نجح في مهاجمة صنعاء بسرعة وأسقطها في يده.
هكذا، وصل العثمانيون باحتلالهم صنعاء إلى قلب المناطق الشمالية اليمنية. وتابع أزدمير حربه فغزا مدينة صعدة عام 1548. ولكن الإمام المطهر أبدى ثباتا كبيرا، فبقي متحصنا في قلعة ثلاء ولم يستسلم. وبعد ذلك، وصل مصطفى النشار على رأس حملة عثمانية جديدة تضم ثلاثة ألف من الجنود أواخر 1551. واستمر حصار ثلاء لمدة سبعة أشهر، انتهت بدخول أزدمير والنشار إلى مدينة ثلاء دون قلعتها التي اعتصم المطهر داخلها. فعقد الأتراك معه صلحا وتركوا له أملاكه.
انتهت بذلك الفترة الأولى من الصراع العثماني الزيدي. ومع وفاة سليمان القانوني العام 1566، يدخل اليمن مرحلته الثانية من ذلك الصراع، حيث سعى الزيود بزعامة الإمام المطهر إلى الثورة على العثمانيين وطردهم من البلاد. وكانت سياسات والي اليمن رضوان باشا الضريبية المجحفة سببا في تأييد اليمنيين لحركة المطهر الجديدة، والتي نجحت في طرد العثمانيين من المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية من اليمن، وحصر الوجود التركي في زبيد.
ولما علم السلطان العثماني سليم الثاني بأمر الثورة الزيدية، أمر بإرسال سنان باشا والي مصر إلى اليمن على رأس حملة عسكرية لإعادة الأمن والنظام فيها، وكان ذلك عام 1569. وبعد سنتين من الحرب الضارية بين الفريقين، استطاع سنان أخيرا أن ينهي الثورة الزيدية. وجاءت وفاة المطهر 1572 لتنهي مغامراته وآل بيته ضد الوجود العثماني في اليمن.
أعقب وفاة المطهر فوضى عارمة في البيت الزيدي مكنت حسن باشا والي اليمن الجديد والذي وصل لتسلم منصبه العام 1580 من الحصول على قسط من الهدوء السياسي في البلد الثائر على الدوام ضد الأتراك.
ولكن هذا الهدوء تماشت معه سياسات عثمانية كانت تمهد في الواقع لثورة يمنية جديدة. فقد ظن الأتراك أن البلاد دانت لهم أخيرا، وبالتالي عادوا إلى فرض الضرائب الثقيلة على اليمنيين، كما ازدادت مظالمهم التي لم تخطئها العين. كل هذا أدى إلى تفجر الثورة من جديد من قبل الأمراء الزيود، ولكن ليس من آل شرف الدين هذه المرة، وإنما من قبل آل القاسم بن محمد.
ففي تسعينيات القرن الـ 16، قام الإمام الزيدي القاسم بن محمد بإشعال الثورة ضد الأتراك، وانتصر عليهم حتى أجبرهم على عقد الصلح الذي اعترفت إسطنبول بناء عليه بسيادة الزيديين على شمال اليمن. وبعد وفاة الإمام القاسم عام 1620 ، خلفه ابنه محمد الملقب بالمؤيد والذي قرر نقض الصلح مع العثمانيين وطردهم نهائيا من اليمن. ويؤثر عنه خطابه الذي ألقاه على اليمنيين لتحميسهم على القتال ضد الأتراك قائلا:
"وبعد فإن الله قد أوجب عليكم قتل هؤلاء الأتراك وأعوانهم من العرب على أي حال ولو خفية في الطرقات والمساجد والبيوت، ومن ترك ذلك وهو يقدر عليه فهو عند الله من الهالكين".
وعلى إثر ذلك الشحن المعنوي، دخل المؤيد في معارك عديدة ضد العثمانيين كان له الظفر فيها، حتى نجح في العام 1635 في طرد آخر جندي عثماني من اليمن لتكون أول ولاية عربية تخرج عن سيطرة العثمانلي، والتي لن تعود إليها إلا في العام 1848 لتشعل الثورة من جديد في أنفس اليمنيين.
شاركنا بتعليقك
تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع