أن تقتل من أجل المتعة.. لماذا اتصف السلاطين العثمانيون بالسادية؟!

العذاب العثماني

العذاب العثماني

كتب: خالد أبو هريرة

لماذا كان السلاطين من آل عثمان يتلذذون بالتعذيب والقتل إلى حد السادية؟! وهل كانت لتنشئتهم غير السوية بين أجنحة القصور في إسطنبول دور في الاضطراب الذي لف سيرتهم؟! يحاول التقرير التالي الإجابة عن تلك الأسئلة في ضوء التاريخ الخاص باثنين من السلاطين العثمانيين، وصف كل منهما بالجنون الكامل، والسادية المطلقة، وهما على الترتيب: السلطان مراد الرابع، ثم السلطان إبراهيم المجنون.

 

الأقفاص

قبل الولوج إلى سيرة إبراهيم ومراد، وهما شقيقان بالمناسبة، علينا التوقف أمام ظاهرة استحدثت في قصر طوب قابي بإسطنبول خلال القرن الـ17 الميلادي، عرفت باسم «أقفاص الأمراء». وكانت عبارة عن أجنحة معزولة في الحرملك العثماني، ليس لها نوافذ، يحبس فيها الأمراء الصغار من السلالة العثمانية طوال فترة صباهم وشبابهم، وذلك لمنع اختلاطهم بالعالم الخارجي وبالتالي إعلان التمرد ضد أخيهم السلطان المتربع على العرش.

كانت السلطانة صفية، إحدى الجواري اللائي حكمن الدولة العثمانية خلال ما يعرف بعصر الحريم، هي التي ابتدعت تلك الأقفاص كبديل عن إعدام السلطان الجديد لكل إخوته الذكور، وهي العادة القديمة التي مارستها صفية نفسها يوم حققت رقمًا قياسيًّا بقتلها 18 أميرًا عثمانيًّا في ليلة واحدة أثناء تنصيب ابنها السلطان محمد الثالث. 

أن تعيش لسنوات طويلة وسط جدران صماء، محظور عليك فيها الكلام أو الاختلاط بالآخرين، هو أمر من شأنه أن يصيبك بخلل نفسي لا محالة. لأنه يحرمك من أبسط مقومات الشخصية السوية، ألا وهي التفاعل مع العالم. وقد نشأ كل من السلطان مراد الرابع ثم شقيقه السلطان إبراهيم داخل تلك الأقفاص، وضربهما مس من الجنون المتفاوت داخلها، لم يلبث أن انعكس على السنوات التي خرجوا فيها بعد ذلك إلى الدنيا، وتربعوا خلالها فوق عرش السلطنة العثمانية.

 

مراد الرابع

هو ابن السلطان أحمد الأول والسلطانة كوسم. خرج مراد سريعًا من أقفاص الأمراء وهو في الحادية عشرة من عمره، ليبايع بالسلطنة بديلا عن عمه السلطان مصطفى الأول، الذي عزل هو الآخر بسبب جنون ظاهر فيه. وخلال الفترة الأولى من حكم مراد، كانت أمه السلطانة كوسم هي المتولية على الحقيقة شؤون الإمبراطورية العثمانية، حيث حجبت مراد عن الأنظار وادعت اضطرارها لذلك بحكم صغر سنه.

استمر وجود مراد الرابع في حجر كوسم تسع سنوات كاملة (1623-1632)، اجتمع في آخرها بالديوان والعلماء وأعلن إصداره فرمانا بإنهاء وصاية السلطانة كوسم عليه، وأكد على أنه ينوي القضاء على الفوضى التي تغلغلت في كيان الدولة، مهددا بأنه لن يتردد في البطش بمن لا يطيعه مهما كان ذلك الشخص. 

وقد أثبت مراد الرابع لاحقًا أنه كان يعني تهديداته حقا. فقد عُرف عنه التنكر مع الخواص من جنوده في زي العوام، والنزول إلى شوارع إسطنبول لتطبيق حكم الإعدام في شاربي الخمور والقهوة، وكانت الأخيرة لا تزال محرمة بدعوى تأثيرها على العقل. ولم يكتف مراد بعقاب شاربي القهوة أو السكارى بالتعذير (أي الضرب) مثلا، وإنما كان ينفذ في هؤلاء حكم الإعدام بنفسه، حيث قتل العشرات من أهالي إسطنبول بقطع رؤوسهم بسيفه الخاص. كما أمر جنوده بإغراق العشرات الآخرين في مياه البسفور. وقد كان مراد يفعل ذلك في الحقيقة من أجل المتعة لا من أجل تطبيق الشريعة كما ادعى، لأننا نعلم اليوم أن السلطان كان مقبلا بكثافة على شرب الخمر في مجالسه الخاصة، لدرجة موته وهو في الـ27 من عمره فقط بسبب تليف في الكبد ناتج عن الإفراط في الشرب. 

كما أن تلك السادية التي اتصف بها مراد، ظهرت في مواضع أخرى بعيدًا عن إعدام السكارى وشاربي القهوة. فقد أجبر مرة طبيبه الخاص على تعاطي جرعة زائدة من الأفيون بسبب تشخيصه الخاطئ لمرضه. وقطع رأس أحد الموسيقيين في بلاطه، لأنه عزف مقطوعة فارسية، ظنًا بأن الموسيقي يمجد أعداءه في إيران. كما أمر في إحدى الليالي بوضع رجل البريد الخاص به فوق الخازوق لأنه بشر السلطان بولادة ذكر له، بينما كان المولود في الحقيقة أنثى. 

هذا الجنون والتفنن في اختيار وسائل القتل، امتد ليطال الحريم، اللاتي كن موضع شك بالنسبة لمراد صاحب التجربة القاسية مع أمه كوسم. ففي إحدى المرات، أغرق السلطان مجموعة من الجواري بتهمة إزعاجه. كما أمر في مرة أخرى مجموعة ثانية من الجواري بالتعري تماما والقفز في بركة مياه وهو يطلق عليهم النار من بندقيته. ويبدو أنه كان يتهمهن بالتآمر ضده مع أمه السلطانة التي كانت وقتها تعيش بعيدًا عن الشئ الوحيد الذي أحبته بصدق: السلطة. 

 

ابراهيم المجنون

ولد إبراهيم للسلطان أحمد الأول والسلطانة كوسم في عام 1615. عاش طفولته كلها حبيسًا في أقفاص الأمراء. وأصيب بلوثة نتيجة تلك الوحدة القاتلة، وكذلك نتيجة لتهديده المستمر بالقتل من قبل شقيقه مراد الرابع، والذي كان يرغب في التخلص من إبراهيم وتولية العرش لذكر من صلبه. 

ورغم توقف مراد عن خطته، ثم وفاته العام 1640، ما كان يعني تصعيد إبراهيم على العرش العثماني، وتبدد مخاوفه، فإن تلك الأزمة النفسية العميقة التي عاشها، أورثته جنونًا ظاهرًا، ومن المشتهر أن السلطانة كوسم لما ذهبت إلى حجرة إبراهيم لتخبره بوفاة مراد ومبايعته بالسلطنة، عجز عن تصديق الخبر حتى شاهد جثة شقيقه بنفسه. 

وعندما تقدم بعد ذلك لتلقي البيعة من الجند ورجال الدولة، بدا للجميع تشوش عقله واضطرابه الشديد، إلى حد عجزه عن إلقاء خطاب العرش عليهم كما جرت العادة. وبات واضحًا من تلفته المستمر، والرعشة السارية في بدنه، أن السكون المميت الذي اعتاده في قفصه الصغير، قد قتل فيه للأبد القدرة على الاجتماع بالناس. كما أضحى ظاهرًا أن الخوف من تهديدات شقيقه المتوفي قد خلفت فيه خوفًا أصيلا لا يمكن محوه أو حتى تخفيفه. 

على أي حال، فإن ذلك كله لم يكن يعني أمرًا قبيحًا للسلطانة كوسم أو رجالها من الانكشارية، لأن همهم الوحيد كان العودة إلى مقاعدهم الوثيرة في السلطة. وبالتالي، فإنهم رحبوا بجنون إبراهيم، بل وشجعوه عليه. 

فقد أثر عن رجال الدولة في ذلك العصر، أن نصحوا السلطان إبراهيم بالتمتع بالجواري والمحظيات والاستكثار منهم. وقبل إبراهيم هذا دون تردد، حتى صار ألعوبة في أيدي عذراوات الحرملك. مثل شكربارا التي جعلت السلطان ينشغل عن كل شيء باللهو واللعب والمجون في جلسات خاصة لا نهاية لها. ثم تللي خاصكي، والتي كانت أخطر شأنًا من الأولى.

فقد أصبح لتللي خاصكي تأثيرها الواسع على إبراهيم حتى غدت أوامرها مطاعة عنده. إلى درجة أنه عندما تزوجها منحها خزينة مصر لمدة سنة كاملة مهرًا لها. كما فرش كامل قصره، ومركبه بجلد السمور بسبب حبها لشكله وألوانه. 

ولكن كل ما سبق لم يعف كذلك إبراهيم من أن يتصف في أفعاله بالسادية. فنتيجة لجنون الارتياب الذي كان غارقا فيه حتى أذنيه، فإن السلطان كان يشعر بأن بعض الجواري اللائي ينتشرن في مخدعه الخاص، إنما هم في الحقيقة جواسيس لصالح أمه كوسم. وبالتالي، فعندما كان يشك في واحدة منهن، فإنه كان يأمر على الفور بإلقاها في مياه البوسفور لتهلك غرقا. وقد قتل إبراهيم نحو 280 جارية بهذه الطريقة الوحشية، ودون جريرة في الغالب، وهو يضحك ضحكة جنونية بملء فيه. 

وقد استمر هذا الجنون حتى العام 1648، عندما اندلعت ثورة الانكشارية ضد السلطان إبراهيم واتهمته بالجنون وتبديد أموال الدولة. واستعانوا بشيخ الإسلام عبد الرحمن أفندي لاستصدار فتوى تجيز خلع إبراهيم ففعل في أغسطس 1648، وسجن السلطان من جديد في إحدى الغرف، بينما بويع ابنه محمد الرابع الذي كان لا يزال في السابعة من عمره، مع منح السلطانة كوسم مرة أخرى الوصاية. ثم استصدر الثوار فتوى جديدة تجيز قتل السلطان إبراهيم، ونفذوا فيه الإعدام خنقا بعد 11 يومًا فقط من خلعه وهو في الثالثة والثلاثين من عمره.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع