عبد القادر الجزائري «2» ما أفسده العثمانيون في دمشق يصلحه الأمير

الأمير عبد القادر الجزائري يأوي المسيحيين أثناء مذابح دمشق 1860

الأمير عبد القادر الجزائري يأوي المسيحيين أثناء مذابح دمشق 1860

كتب: خالد أبو هريرة


لما أُفرج عن الأمير عبد القادر الجزائري من أسره في فرنسا العام 1853، وسافر إلى العاصمة العثمانية إسطنبول كي يعيش فيها كمنفى جديد، لم يجد في الأخيرة حرارة في الاستقبال من قبل العثمانيين، أو معاملة تليق بمكانته كقائد للمقاومة الجزائرية، وربما مردّ ذلك مخاوف النخبة العثمانية من نفوذ رجل في حجم عبد القادر، لم ينجح فحسب في كسب الشهرة الواسعة بين المسلمين والعرب في أرجاء الشرق، وإنما كذلك في الحصول على احترام الأوروبيين. وقد كانت تلك الشهرة وذلك الاحترام هما أكثر ما يخيفان النخبة في عصر كان النفوذ العثماني فيه يتراجع بحدة في الولايات المختلفة للإمبراطورية.

هكذا شعر عبد القادر الجزائري أنه ضيف ثقيل على قلوب الأتراك، فاستغل الزلزال الذي ضرب إسطنبول في العام 1855، وطلب نقله إلى دمشق التي تجمعه بها صلات روحية قديمة، منذ زار فيها قبر الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رفقة أبيه أثناء رحلتهما للحج. قبل العثمانيون طلب الأمير بسهولة، فسافر إلى الشام ووصل دمشق العام التالي، حيث استُقبل هناك من العرب بكل مظاهر الفرحة والاحترام على العكس من عاصمة آل عثمان. ولكن ذلك لم يكن يعني بالضرورة أن العيش في المدينة القريبة إلى قلبه سيكون هادئا، إذ كانت بلاد الشام وقت هبوطه إليها على وشك استقبال عاصفة عنيفة من الفتن الطائفية المدمرة، ملأتها -كما ملأت حياة الأمير الجديدة- بالضجيج والصخب.

لفهم تلك الأزمة الطائفية التي عاصرها عبد القادر في دمشق، لا بد من العودة بالزمن قليلًا قبل وصوله إلى الشام، للوقوف على سياسات الدولة العثمانية، وكذلك القوى الأوروبية صاحبة النفوذ في سوريا ولبنان، والتي نتج عنها احتقان بالغ بين الطوائف الدينية، لم يلبث أن انفجر وقت حل الأمير ضيفًا على دمشق.

فمنذ العام 1840، وبعد نهاية حكم محمد علي باشا حاكم مصر للشام، زادت ثورات الفلاحين من الموارنة الكاثوليك ضد السادة الإقطاعيين من الدروز، فرد السلطان العثماني عبد المجيد الأول على ذلك بخلع الأمير الدرزي بشير الثالث عن حكم جبل لبنان في العام 1842، وعين عمر باشا بدلاً منه. ولكن هذا التعيين، خلق مشاكل أكثر مما حل، حيث ظلت المشكلات قائمة بين الموارنة والدروز.

اقترح ممثلو الدول الأوروبية على السلطان تقسيم لبنان إلى مقاطعتين، واحدة للمسيحيين والأخرى للدروز. وفي 7 ديسمبر 1842، اعتمد  السلطان هذا المقترح وطلب من أسعد باشا، حاكم دمشق، تقسيم المنطقة، إلى جزءين: منطقة شمالية تحت حاكم نائب مسيحي، وجنوبية تحت سلطة نائب درزي. وعرف هذا الترتيب باسم «القائمقامية المزدوجة». وتبع كلا المسؤولين حاكمَ صيدا، الذي بدأ يقيم في بيروت. واعتبر طريق بيروت - دمشق السريع، الخط الفاصل بين هاتين المقاطعتين.

مرة أخرى، لم يحلَّ التقسيم المشكلات الطائفية العويصة في المنطقة، بل زادها حدة. خاصة مع إصرار القوى الكبرى على الإبقاء على ذلك الوضع لضمان مكان في المستقبل السياسي للبنان. فمن جهة، رأى العثمانيون أن التفرقة الطائفية تعينهم على حكم أهل الجبل الشرسين، ومن جهة أخرى دعمت فرنسا الموارنة الكاثوليك، في حين أيدت بريطانيا الدروز.

وقد أفرز ذلك كله مذابح بين الدروز والموارنة في مارس سنة 1845. الأمر الذي دعا القوى الأوروبية إلى مطالبة السلطان العثماني بإعادة النظام، فحاول الأخير إنشاء مجالس جديدة في كلتا المقاطعتين، كانت مؤلفة من أعضاء يمثلون المجتمعات الدينية المختلفة. وهدأ الوضع قليلًا حتى عاود الاشتعال مع ظهور أثر التنظيمات العثمانية على أهالي لبنان.

والتنظيمات العثمانية كانت محاولة من السلطان عبد المجيد الأول لـ علمنة الدولة، عبر إصدار مجموعة قوانين هدفها إقامة العلاقات بين شعوب الإمبراطورية على أساس المواطنة لا على أساس العرق أو الدين. ولكن تلك الواجهة الملونة لم تلبث أن ضربتها حقيقة التوزيع غير العادل لمميزات تلك القوانين الجديدة.

فعلى أثر إصدار التنظيمات، نشأت علاقات تجارية متميزة بين الأوروبيين من جهة والمسيحيين في لبنان و سوريا من جهة أخرى. وبرزت بيروت كميناء مهم يؤمّن للأوروبيين التواصل مع الداخل السوري وخاصة دمشق. واعتمدت الدول الأوروبية على المسيحيين واليهود من سكان دمشق لمساعدتها كمترجمين ووكلاء تجاريين. فأصبحوا هؤلاء من الأغنياء واكتسب العديد منهم حصانة دبلوماسية بحصولهم على جنسيات أوروبية .أدى ذلك إلى ازدياد غنى التجار المسيحيين واليهود على حساب التجار المسلمين وخاصة صغار التجار.

كما تأثرت صناعات النسيج والحرير المحلية مع ازدياد الواردات الأوروبية والمنافسة على السوق المحلية. وانخفض الإنتاج المحلي منها إلى الربع تقريباً وأغلق العديد من الورشات. وفوق كل هذا جاء الكساد الاقتصادي الذي أصاب أوروبا في عامي 1857-1858 ليزيد الطين بلة، فكثرت جرائم السرقة ولم تسلم حتى قوافل الحج القادمة من بغداد. ولجأ الكثير من التجار الدمشقيين المسلمين إلى الاقتراض من التجار ورجال الأعمال المسيحيين واليهود في دمشق وبيروت. حتى أن المسيحيين واليهود أصبحوا دائنين للحاكمين العثمانيين. وفي عام 1858 وضعت السلطنة قانوناً يسمح للأوروبيين وأعوانهم في سوريا بشراء الأراضي من نبلاء دمشق المسلمين ليخف عنهم عبء الديون.

هكذا ساهمت التنظيمات في إثراء المسيحيين واليهود وإفقار المسلمين، وأصبح اللوم كله يُلقى على العثمانيين الذين منحوا أوروبا تلك الامتيازات التجارية المطلقة، وعلى أوروبا التي دعمت الأقليات الدينية في الشام دون المسلمين، وعلى الأقليات نفسها التي أصبحت تقود المالية في مدن الشام الكبرى.

وسط ذلك كله، كان المسيحيون الموارنة من الفلاحين لا يزالون يعانون وطأة الحكم الإقطاعي لأمراء الدروز. وفي 1858 طالب طانيوس شاهين، أحد قادة الفلاحين الموارنة، بإلغاء الامتيازات التي تميزت بها الطبقة الإقطاعية، وتخفيض الضرائب المفروضة عليهم. وعندما تم رفض هذا الطلب، أشعلوا الثورة في يناير 1859، تحت قيادة طانيوس شاهين نفسه. واستهدفت الانتفاضة مشايخ جبل لبنان، فنهبت أراضيهم وحرقت منازلهم.

بعد هزيمتهم وطردهم الإقطاعيين الدروز، سيطر الفلاحون المتمردون على معظم أراضي كسروان وأسسوا بها حكمهم. كانت لانتفاضة كسروان، آثار ثورية على مناطق أخرى في لبنان. فانتشرت الاضطرابات إلى اللاذقية ووسط لبنان. وبدأ الفلاحون الموارنة، بالتحضير لانتفاضة على الإقطاعيين الدروز. وبالمقابل بدأ هؤلاء بدورهم تسليح رعاياهم من الدروز، وذلك بدعم من الوالي العثماني خورشيد باشا. وتصاعدت التوترات عندما هدد البطريرك الماروني بولس بطرس مسعد، الأمير الدرزي مصطفى باشا، بطرد الدروز من لبنان بقوة قوامها 300,000 رجل.

بحسب الروايات الشعبية، انطلقت مجازر 1860 بنزاع بين طفلين درزي و ماروني من دير القمر، فتدخلت عائلتاهما ومن ثم طائفتاهما. وأشعلت هذه الخلافات سيلًا من أعمال العنف اجتاحت لبنان. دمرت خلالها 60 قرية بالقرب من بيروت في ثلاثة أيام، من 29 إلى 31 أيار/مايو 1860، قُتل خلالها 33 مسيحيًا و48 درزيًا.

وبحلول يونيو 1860، امتدت الاضطرابات إلى الأحياء المختلطة من جنوب لبنان، وجبال لبنان الشرقية، وحتى صيدا وحاصبيا وراشيا و دير القمر وزحلة. أقام خلالها الفلاحون الدروز حصارًا حول الأديرة الكاثوليكية والبعثات وحرقوها وقتلوا رهبانها.
وفي دمشق نظمت جماعات شبه عسكرية درزية ومسلمة، المذابح بالتواطؤ مع السلطات العسكرية العثمانية، استمرت ثلاثة أيام (9-11 يوليو)، قُتل خلالها الآلاف من المسيحيين بما في ذلك بعض أفراد البعثات الأجنبية بها، كالقنصل الأمريكي والهولندي. كما أحرقت الكنائس والمدارس التبشيرية.

الأمير المنقذ
وقت اشتعال المذبحة في دمشق، كان الأمير عبد القادر الجزائري يعيش فيها حياة بعيدة عن السياسة، يتفرغ خلالها للعلم وحده وتلقين المعارف للطلاب. ولكن مع اندلاع الأحداث، وعلم عبد القادر بأن العثمانيين تركوا 300 جندي فقط لحماية المدينة، وأن الوالي العثماني لدمشق لما علم بوقوع المذبحة أكمل استمتاعه برحلة الصيد التي كان فيها، تحرك فورًا بمن معه من الجزائريين، وكانوا نحو الألف لإيقاف أنهار الدماء التي سالت في شوارع وحارات دمشق قدر الإمكان.

يقول الباحث «جلة سماعين» في بحثه «الأمير عبد القادر الجزائري وإنقاذ المسيحيين في حرب دمشق»، نقلًا عن مؤرخ معاصر للأحداث يدعى سعيداني: «بلغ عدد الذين أنقذهم الأمير من القتل والعذاب خمسة عشر ألف شخص من القناصل وأعيان النصارى والرهبان والراهبات، ولما ضاقت بهم داره بعثهم إلى قلعة المدينة كما احتمى بحي السويقة وبخان المغاربة نصارى الميدان، وطلب منه جماعة من النصارى أن يؤمن لهم طريق الوصول إلى بيروت ففعل. كما أرسل برسائل تترجى علماء حمص وحماه إلى درء الفتنة والتعقل حقنًا للدماء. وقد أعطى الأوامر للجزائريين السبعمائة المرابطين في ضواحي دمشق بأن يدخلوا بمجموعات صغيرة إلى المدينة لينضموا إلى الثلاثمائة جزائري المستقرين فيها من قبل. وأن يكونوا جاهزين في كل لحظة لكي يدينوا باسم الدين كل محاولة إجرامية ضد دين مختلف».

كان إنقاذ الأمير لهذا العدد الكبير سببًا في تقليل عدد ضحايا مذبحة دمشق الذين تراوح عددهم بين 12900 قتيل بحسب المصادر الكاثوليكية، و 11500 قتيل بحسب المصادر العثمانية. وكما قال «جلة سماعين»: «المؤكد أن الأمير منع احتمالات زيادة هذا العدد من خلال شجاعته في إنقاذ أفواج هائلة هبت إليه، وخلصها أيضًا من جموع المسلمين الأتراك الذين أشعلوا النيران بحي المسيحيين، ولولا تدخل الجزائريين الذين كانوا بدمشق وكان عددهم يربو عن الألف. وقد احتمت آلاف العائلات مكونة من النساء والشيوخ والأطفال في بيته ونجح في إقناع الدروز القادمين بغية قتل ما تبقى من المسيحيين بالعدول عن تلك النية اللاإنسانية».

بعد تلك الوقفة البطولية، «نال الأمير كل رسائل التقدير وعواطف الإعجاب، فقلده نابليون فرنسا وسام الشرف ورفع من منحته، وأرسل إليه ألكسندر قيصر روسيا صليب النسر الأبيض الكبير، وكتب إليه الأمير الداغستاني شامل في العام 1860 له: «أنا فرح بك، لقد أعدت إحياء كلمة الرسول ووضعت حدًا لمن يخون عهده». ورد عليه الأمير عبد القادر: «إن ما فعلناه بحق المسيحيين لم يكن سوى ما يمليه الواجب الديني والإنساني». كما قام الرسام البلجيكي صاحب اللوحات الاستشراقية، جان بابتيست هويسمانز، بتخليد بطولة الأمير بلوحة شهيرة تصوره وهو ينقذ المسيحيين الذين استنجدوا به وقت المذبحة.

عاش عبد القادر الجزائري بعد الأحداث الطائفية في الشام لأكثر من عقدين، حيث مات في دمشق بتاريخ 23 مايو 1883 عن عمر يناهز 76 عامًا، ودفن طبقًا لوصيته بجوار قبر الشيخ ابن عربي في حي الصالحية. واستمر جثمانه هناك حتى نقل إلى الجزائر بعد استقلالها عن فرنسا العام 1965 ودفن في مقبرة العالية في مربع الشهداء. ورغم أن تلك النقلة كانت تقديرًا من الثوار الجزائريين لدوره التأسيس في المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال، فإن الذاكرة العربية والإسلامية، بل والأوروبية احتفظت له بالأدوار الأخرى التي ارتبط اسمه بها منذ نُفي عن وطنه، خاصة مروءته التي أظهرها تجاه المسيحيين في دمشق، والذين كادت أحداث العام 1860 تأتي على آخرهم.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع