«عراق ما بعد صدام حسين»: هل يستدعي أردوغان «خريطة أوزال» لاحتلال الموصل؟!

خريطة من العصر العصر العثماني لولاية الموصل شمالي العراق

خريطة من العصر العصر العثماني لولاية الموصل شمالي العراق

كتب-خالد أبو هريرة

في 5 فبراير من عام 1991، أي قبل بدء حرب الخليج الثانية ضد العراق بأيام قلائل، نشرت جريدة «حرييت» التركية ما أسمته «خريطة أوزال الكونفدرالية» المنسوبة إلى الرئيس التركي آنذاك، تورجوت أوزال. وفيها يعرض الأخير على الإدارة الأمريكية، والتي كانت تقود تحالفًا دوليًا ضخمًا لإجبار الرئيس العراقي، صدام حسين، على الانسحاب من الكويت، تقسيم العراق جغرافيًا بعد سقوط النظام البعثي في بغداد إلى ثلاث مناطق متساوية على أساس عرقي: الأولى منطقة تركية في محافظتي الموصل وكركوك، والثانية كردية في محافظتي السليمانية وأربيل، والثالثة عربية في بقية أنحاء العراق. وقد اعتبر أوزال أن مثل تلك القسمة كفيلة بنزع فتيل حرب إقليمية واسعة على «تركة صدام».

ورغم أن الطرف الأمريكي لم يقبل بخريطة «أوزال» في عام 1991، كما أن النظام البعثي تأخر سقوطه إلى حادث الغزو الأمريكي في عام 2003، مع معاينة الفترة الممتدة بين التاريخين تطورات خطيرة في العراق، خاصة في الشمال منه، حيث الاهتمامات التركية الرئيسية، أهمها صعود هوية سياسية مستقلة للأكراد، ممثلة في حكومة كردستان العراق وعاصمتها أربيل. رغم كل ذلك، فقد بقي للتقسيم الذي عرضه تورغوت أوزال على واشنطن مكانة بارزة في رؤية السياسة التركية تجاه العراق، خاصة خلال العقد الأخير والذي يشدد فيه الرئيس التركي الحالي، رجب طيب أردوغان، من وجوده السياسي والعسكري في شمال العراق، عبر حملات عسكرية دورية ومنظمة يشنها ضد حزب العمال الكردستاني، وكذلك من خلال علاقات عميقة أصبحت تربطه بالقيادة الكردية في أربيل.


التقرير التالي يرصد تاريخ «خريطة أوزال الكونفيدرالية» وعلاقتها بالماضي التركي المعقد في شمال العراق، ثم يحاول الوقوف على مدى ارتباط سياسات أردوغان «العراقية» بتلك الخريطة في الوقت الحالي..

موضوعات متعلقة

تركيا وحلم الموصل
عقب نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، أصدر القوميون الأتراك بقيادة مصطفى كمال (أتاتورك) الميثاق الملي (1920)، كخريطة راسمة لحدود الجمهورية التركية الناشئة فوق أنقاض الدولة العثمانية المنهارة. وفي الميثاق، اعتبر شمال العراق كله، أو ولاية الموصل كما كان يعرف في العصر العثماني جزءًا من تركيا، باعتبار أنه لا يحوي أغلبية إثنية عربية على غرار وسط العراق وجنوبه. ولكن القوى الأوروبية التي وقعت معاهدة لوزان مع القوميين الأتراك في العام 1923 رفضت الاعتراف بالميثاق الملي، وأرجأت حسم مصير ولاية الموصل إلى نقاشات عصبة الأمم.

وفي عام 1926، قررت عصبة الأمم رفض الحجة التركية وأعلنت ضم شمال العراق بالكامل وعاصمته الموصل إلى المملكة العراقية الهاشمية. وهو ما اعتبرته تركيا مؤامرة غربية للاستحواذ على الثروة النفطية في شمال العراق وحرمان أنقرة منها.

وطوال العقود التالية، ظلت الموصل في واجهة الأولويات بالنسبة لسياسة تركيا الإقليمية. وزاد من الأمر حدة، تصاعد المد القومي للأكراد منذ ثمانينات القرن العشرين فصاعدًا، بنشوء حزب العمال الكردستاني «بي كا كا» وخوضه حربًا طويلة ضد الجيش التركي، وكذلك بذيوع الأنباء حول رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في دعم حكومة مستقلة للأكراد في شمال العراق.

كانت المخاوف التركية من نجاح كردي في العراق تحديدًا مزدوجة. فمن جهة، خشت أنقرة من أن يؤدي ظهور حكومة للأكراد في أربيل إلى تشجيع الإثنية الكردية داخل جنوب تركيا - وهي ضخمة تمثل وحدها نحو 20% من إجمالي سكان تركيا - على طلب الانفصال والانضمام إلى بني جلدتهم في العراق. ومن جهة أخرى، كان تأسيس دولة كردية فوق منابع النفط في الموصل وكركوك، يعني وأد حلم تركيا القديم في تلك الثروة، وتقوية الخصم الكردي بمنحه مصدرًا هائلًا للقوة الاقتصادية.


حرب الخليج
وقد بدا ذلك الكابوس على وشك التحقق عندما بدأت حرب الخليج الثانية في 16 يناير 1991 بحملة جوية واسعة قادتها دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد نظام الرئيس العراقي، صدام حسين. فبالتوازي مع سقوط القنابل من كل صنف فوق رؤوس البعثيين، كانت جميع الأطراف المتنافسة قد بدأت بالفعل التخطيط لقسمة الإرث السياسي المعقد الذي سوف يخلفه صدام. وركزت تركيا بالطبع على اهتمامها الجيوسياسي بشمال العراق.

ففي 17 يناير 1991، أكد الرئيس التركي، تورجوت أوزال، أن بلاده لن تسمح بظهور دولة للأكراد في شمال العراق بانتهاء الحرب. ثم عاد في 21 فبراير 1991 للتأكيد على أن بلاده كعضو في حلف الناتو سوف تسمح باستخدام قواعدها العسكرية لضرب النظام البعثي، وأن تركيا لن تتدخل في الحرب إلا إذا «أنشئت دولة كردية في شمال العراق، أو تعرض شمال العراق للغزو من قبل دولة ما».

رغم أن تصريحات أوزال رفضت بصورة كلية ظهور دولة للأكراد في الشمال العراقي، ورغم أنه كان يحاول تبرير ذلك أمام الحليف الأمريكي بحماية الأمن القومي التركي، وليس لرفض أنقرة استحواذ الأكراد على نفط الموصل وكركوك، والذي وصفه أوزال في ذلك الوقت بأنه «قوة فقدت أهميتها»، فإن حقيقة «الخريطة الكونفيدرالية» التي قدمها الرئيس التركي لواشنطن قبيل حرب الخليج، وأذاعتها جريدة «حرييت» تشير إلى قبول تورجوت أوزال المبدئي بدولة كردية في شمال العراق شريطة بقائها ضمن مناطق النفوذ الكردية التاريخية في أربيل والسليمانية، ودون الاقتراب من الموصل وكركوك، اللتين رغم امتلاكهما إرثًا عرقيًا معقدًا، وواقعًا سياسيًا خلافيًا، اعتبر أنهما -مع الثروة النفطية فيهما- حق أصيل لتركيا.

والذي يؤكد التطور المهم الذي جلبه تورجوت أوزال إلى الموقف التركي بخصوص المسألة الكردية، أنه كان أول من اقترح سياسة الباب المفتوح مع القيادات الكردية في أربيل، واستضاف بنفسه في أنقرة كلًا من الزعيمين الكرديين جلال طالباني ومسعود بارزاني. وكان ذلك يعني استبداله قرارات أسلافه المتزمتة والتي رفضت أي كيان سياسي مستقل للأكراد مستعينة بالعصا العسكرية الغليظة، لصالح مرونة وواقعية سياسية تقبل الاعتراف بخريطة التحالفات الدولية الجديدة، وتنسجم معها بما يحقق أكبر قدر من المكاسب لأنقرة.

موضوعات متعلقة

على أي حال، فُرض على خريطة أوزال الكونفدرالية، التجميد بسبب الظروف التي أعقبت نهاية حرب الخليج في 28 فبراير 1991. فعلى عكس التوقعات، فضلت الولايات المتحدة الأمريكية الإبقاء على النظام البعثي بقيادة صدام حسين في بغداد، ربما لضبابية الرؤية بخصوص الشكل الأمثل لعراق ما بعد صدام. وبدلًا من أن يتابع خلفاء تورجوت أوزال في قيادة تركيا سياسته المشجعة للتقارب مع الأكراد في أربيل، عادت الأساليب العسكرية وحدها فيصلًا بين أنقرة وخصمها الكردي. ولولا منطقة حظر الطيران التي أسسها الأمريكيون فوق مناطق الشمال العراقي عقب نهاية حرب الخليج، لبدأت حرب تركية شاملة ضد كردستان العراق، بغية إنهاء أي طموح سياسي للزعماء الكرد في أربيل.


إحياء خطة «أوزال»
انتهت حالة التجميد تلك في عام 2003، عندما تم إسقاط صدام حسين أخيرًا على يد الغزو الأمريكي، في نفس الوقت الذي كان الإسلاميون الأتراك وحزبهم العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان يصلون إلى سدة الحكم في أنقرة. وقد شهدت الفترة الأولى من عهد أردوغان، على الأقل حتى عام 2009، استمرارًا للسياسة الأمنية التركية ضد أكراد العراق، خاصة في ظل الأنباء حول اقتراب قيام دولة كردية في الشمال العراقي. وقد وصل الأمر إلى حد إنفاذ الجيش التركي مجموعة من الكوماندوز إلى المنطقة في صيف عام 2003 بهدف اغتيال الحاكم الكردي الجديد لأربيل، ونجحت الفرقة 173d من قوات المظلات الأمريكية في اقتحام مخبأ تلك المجموعة بإحدى قرى دهوك، وألقت القبض على كل أفرادها فيما عرف باسم عملية القلنسوة، بسبب أغطية الرأس السوداء التي وضعها الأمريكيون على رؤوس ضباط الكوماندوز الأتراك أثناء ترحيلهم إلى موقع التحقيق الخاص بالجيش الأمريكي.

كانت عملية القلنسوة رسالة من واشنطن إلى تركيا بأن المساس بكردستان العراق مرفوض. وبالتالي، كان ضروريًا على النظام التركي بقيادة أردوغان التخلي عن التزمت العسكري والرجوع إلى الواقعية السياسية لتورجوت أوزال. وبالفعل، أعلنت أنقرة في سبتمبر من عام 2009 عن البدء في العمل بما سمته سياسة الانفتاح الديمقراطي على الإثنيات في تركيا، وعلى رأسها الإثنية الكردية. وتلا ذلك انقلاب شامل في سياسة أردوغان تجاه زعامات الأكراد في أربيل، تحول فيه هؤلاء من أكبر أعداء للأمن القومي التركي إلى أكبر حلفاء ضامنين له على الحدود الجنوبية مع العراق.

يمكن رصد هذا الانقلاب في العلاقات الممتازة التي أصبحت تجمع بين أنقرة وأربيل سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، حيث تحولت تركيا إلى ثالث أكبر شريك تجاري لكردستان العراق، وفتحت قنصلية تركية في أربيل، ووقّع الأتراك عقودًا مع الأكراد تقضي بتمرير النفط من كركوك إلى ميناء جيهان التركي مباشرة دون العودة إلى قرار الحكومة العراقية في بغداد، وأخيرًا، أصبحت أربيل المنسق الرئيس مع الجيش التركي في ضرباته الموجهة لحزب العمال الكردستاني في جبل قنديل، بل وسمحت له حتى بتأسيس قواعد عسكرية في نواحي دهوك وأربيل، يتجاوز عددها الحالي العشرين قاعدة.

حقق هذا التحول العديد من الإيجابيات لتركيا، فقد جلب لها رضا واشنطن التي أسعدها رؤية حليفين لها وهما يتوافقان بدل التنازع، كما ضمنت أنقرة بذلك اختراق حكومة كردستان العراق وتدجينها في المشروع السياسي التركي، وكذلك التحرك العسكري في شمال العراق ضد «بي كا كا» دون معارضة، وأخيرًا الوصول إلى نفط الموصل وكركوك دون عوائق.


ولكن هل انتهى الأمر على تلك الصورة الوردية؟!..

بالتأكيد لا. فإذا كان أردوغان قد نجح عبر استدعاء خطة تورجوت أوزال في احتواء الطموح الكردي في أربيل، فإن السؤال حول موقف أردوغان من الخريطة الكونفدرالية لعراق ما بعد صدام لا يزال في حاجة إلى نقاش.
إن المتابع للسياسة التركية خلال العقد الأخير تجاه شمال العراق يمكنه أن يخرج بنتيجة مفادها أن خريطة أوزال هي في الحقيقة المرشد الكبير لتحركات أنقرة السياسية والعسكرية في المنطقة. فعبر الإلحاح في استدعاء الميثاق الملي، وتشجيع المجموعات التركمانية في شمال العراق، والاعتراض على أي محاولة من حكومة كردستان العراق تضمين كركوك دولة كردية مستقلة عبر استفتاء شعبي كذاك الذي جرى في العام 2017 وتم تجميد نتائجه، أو عبر التأكيد على هوية كردية للمدينة برفع أعلام كردستان فوقها، عبر كل ذلك، أكد أردوغان على أن هدفه النهائي من وجوده العسكري الحالي في شمال العراق لا يقتصر فحسب على القضاء على حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل، وإنما الانطلاق بعد تحقيق ذلك إلى محاولة إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بقسمة أوزال الثلاثية للعراق (تركية - كردية - عربية)، بدلًا من القسمة الثلاثية الشائعة حاليًا (دولة كردية في الشمال - دولة سنية في الوسط - دولة شيعية في الجنوب)، ورد الموصل وكركوك بذلك إلى حدود الميثاق الملي. وإذا ما فرضنا أن الطرف الأمريكي سوف يرفض من جديد خريطة أوزال كما رفضها في العام 1991 - وهو الأقرب للواقع - فإن الطرف التركي سينقلب لـ«الخطة باء»، وهي بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، حيث التحالف القائم بين أنقرة وأربيل شريطة عدم اقتراب الأخيرة من الثروة النفطية للموصل وكركوك.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع