حرب الثلاثين عامًا «3».. أتاتورك يهين السفير المصري بسبب «طربوش»

أتاتورك - عبد الملك حمزة سفير مصر في أنقرة

أتاتورك - عبد الملك حمزة سفير مصر في أنقرة

كتب: خالد أبو هريرة

لم تُنهِ تعهدات مصر لتركيا بعدم فتح ملف الخلافة الإسلامية من جديد، تخوفات رئيس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، من نوايا القاهرة تجاه بلاده. وكان استمرار احتضان مصر لمعارضي النظام الكمالي من الأتراك، والانتقادات العلانية في الصحافة المصرية لعمليات علمنة تركيا، وبقاء مسألة الخلافة نفسها معلقة دون ضامن حقيقي بعدم إقدام ملك مصر والسودان على إحيائها مستقبلًا، هي التي أجبرت تلك التخوفات على البقاء معششة في رأس أتاتورك. وهو وإن حاول إخفاء حنقه على الملك فؤاد بحكم حرصه على المصالح الاقتصادية بين مصر وتركيا، فإن العام 1932، شهد انفجار مكنوناته تجاه القاهرة، بعد أن أهان السفير المصري في أنقرة عبد الملك حمزة، فيما عرف باسم «حادث الطربوش».

يقدم لنا الدكتور محمد حرب، في كتابه الدفاعي بامتياز عن التاريخ العثماني، (العثمانيون في التاريخ والحضارة)، تفاصيل ممتازة عن «حادث الطربوش»، والسجالات المصرية التركية التي أعقبته.

يقول محمد حرب: «في العام 1930، تم تعيين عبد الملك حمزة بك سفيرًا لمصر في أنقرة، وظل يرتدي طربوشه في أنقرة مدى عامين كاملين منذ تقديم أوراق اعتماده لأتاتورك في نوفمبر من نفس عام تعيينه، حتى يوم الاحتفال بالعيد الوطني التركي في أكتوبر 1932. وكان أتاتورك قد أقام مأدبة رسمية مساء في (أنقرة بالاس) أعقبها حفل راقص حضره أعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي في تركيا. كان المدعوون كثيرين (200 شخص). وكان أتاتورك يأكل قليلا ويشرب بشراهة. انتهى الحفل عندما قام أتاتورك واقفًا، وشرب كأسًا في سبيل (وحدة الإنسانية)، ومر أثناء خروجه بجانب السفير المصري الذي كان يرتدي الطربوش. وكان الطربوش في ذلك الوقت رمز الوطنية والاستقلال في مصر».

كانت الخمر تلعب بعقل أتاتورك في تلك اللحظات الختامية من الحفل. ولما هم بمغادرة المكان، رأى الطربوش الأحمر فوق رأس عبد الملك حمزة، فلم يتمكن ضبط نفسه بحكم السكر. يقول محمد حرب: «يروي السفير الإنجليزي في أنقرة وقتها، وهو سير جورج كليرك المسألة كالآتي: (قال أتاتورك للسفير المصري: قل لمليكك، إنني أنا مصطفى كمال!، وإنني أصدرت أوامري لك بأن تخلع هذا الطربوش من على رأسك، من الآن)... ونادى أتاتورك جرسونا، ثم خلع السفير المصري طربوشه وأعطاه للجرسون الذي أخذ الطربوش واختفى بين نظرات الدهشة في أعين المدعوين، بينما انسحب سفير مصر حزينا من المكان فورا».

يتابع حرب، نقلا هذه المرة عن السفير الفرنسي الكونت دي شاميرون، والذي كان هو الآخر حاضرًا الحفل: «كان أتاتورك ينظر بين الفينة والفينة بنظرات سخرية إلى السفير المصري».

غادر السفير المصري عبدالملك حمزة الحفل مغضبا، وذهب رأسًا إلى مقر السفارة المصرية لكتابة تقرير بما حدث إلى وزارة الخارجية المصرية. وقد حاول وزير الخارجية التركي توفيق رشدي أراس، تدارك الأمر قبل أن يتحول لأزمة دبلوماسية. وذهب بنفسه إلى السفارة المصرية في أنقرة للاعتذار نيابة عن مصطفى كمال، ومنع عبدالملك حمزة من إرسال تقريره إلى القاهرة. ولكن السفير المصري - وفقًا للروايات المتاحة عن الحادث - رفض لقاء وزير الخارجية التركي، وسافر في نفس الليلة إلى اليونان، كي يتمكن من هناك من إرسال التقرير إلى مصر.

وفقا لمحمد حرب، فإن أخبار «حادث الطربوش» وصلت إلى الصحافة المصرية في 11 نوفمبر من العام 1932، عبر برقية بالخبر أرسلتها وكالة رويترز إلى القاهرة. تلقفت صحيفة الأهرام الخبر ونشرته فورًا. بينما سارعت وكالة أنباء الأناضول التركية إلى تكذيبه، ونقلت عن وزير الخارجية التركي توفيق رشدي أراس قوله: «إن ما حدث كان حديثًا وديًا بين أتاتورك وسفير مصر، وإن السفير خلع طربوشه بإرادته حتى يتحدث براحة مع أتاتورك».

نشر التكذيب الرسمي التركي أيضًا عبر الصحف المصرية. وخرج وزير الخارجية المصري في ذلك الوقت عبد الفتاح يحيى باشا، لينفي مزاعم نظيره التركي. وأكد للصحافيين صحة الإهانة التي تعرض لها السفير المصري عبد الملك حمزة على يد أتاتورك. ومحمد حرب ينقل عن عبد الفتاح يحيى باشا التصريح التالي: «إن أتاتورك قال بشكل قاطع لسفير مصر في أنقرة بأن يخلع طربوشه. ولما لم ينفذ السفير هذا، أصدر أتاتورك أمره إلى أحد الخدم ليخلع الطربوش من على رأس سفير مصر، فرأى السفير أن يخلع بنفسه الطربوش وأمام هذا الموقف غير المتوقع من أتاتورك وجد السفير المصري أن يترك القاعة».

أثار «حادث الطربوش» عاصفة من الغضب في القاهرة. فقد أمر الملك فؤاد بإرسال مذكرة إلى الجمهورية التركية، تهدد فيها مصر بسحب بعثتها الدبلوماسية من أنقرة، إذا لم يتم الاعتذار للسفير المصري من قبل مصطفى كمال. كما أن حزب الوفد، وكان وقتها خارج الحكومة، وفي طليعة المعارضة، حاول استغلال الحادث للضغط على رئاسة الحكومة المصرية، وإظهارها بصورة المفرط في حق المصريين. والدكتور محمد حرب ينقل عن جريدة البلاغ الناطقة باسم الوفديين قولها في الواقعة: «إن هذا الحادث إهانة لمصر، وإنها لإهانة أن يقوم شخص لا يملك حق توجيه الأمر لمصر، إصدار الأمر إلى ممثل مصر، وهو موضع الاحترام حسب قواعد القانون الدولي».

كذلك - كما أشار حرب - اشتعلت حملة في الصحافة المصرية لانتقاد تصرف مصطفى كمال. فقالت مجلة اللطائف المصورة: «لقد تدخل أتاتورك فيما لا يعنيه». وقالت: «المصريون أحرار يرتدون فوق رؤوسهم ما يريدون».. و«إن الشعب المصري الحر، يريد أن يعرف وهو محق في هذا ماذا سيتم في مسألة الطربوش». وأخيرًا لجأت مجلة روز اليوسف لسلاح الكاريكاتير للسخرية من أتاتورك.

هذا عن ردود الفعل في مصر. أما في تركيا، فقد نظرت الصحافة في أنقرة إلى «حادث الطربوش» كمؤامرة من الملك فؤاد بالاشتراك مع سلطات الاحتلال البريطاني، للإضرار بالمصالح التركية في مصر، عبر التهويل من واقعة الحفل. يقول محمد حرب: «في أنقرة، ترددت الأسئلة في الصحافة التركية حول أسباب خروج خبر حادثة الطربوش من لندن وليس من مصر. وهدف الصحافة المصرية من إذاعة الخبر وتضخيمه، ودور الأوساط السياسية الإنجليزية في هذه المسألة».

وينقل حرب عن صحافي تركي يدعى عاصم أوص قوله: «إن الملك فؤاد يريد الإضرار بالاقتصاد التركي في مصر. لذلك اختلق هذه الحادثة، حتى يفسد علينا نحن الأتراك الدخان (التبغ) التركي، والتفاح التركي (يقصد إفساده بوقف تصديره إلى السوق المصرية)».
يتابع محمد حرب: «وذهب بعض الأتراك إلى أن المعتمد البريطاني في مصر (كان السير بيرسي لورين في ذلك الوقت) استخدم نفوذ بلاده في القاهرة لكي يغير الجو ويكهربه بين مصر وتركيا».

على أي حالة، فقد انتهت «عاصفة الطربوش» أخيرًا بتقديم الخارجية المصرية مذكرة اعتراض، وصفت بـ«المخففة» إلى نظيرتها التركية، وتلقتها الأخيرة بالإيجاب. وقد استغل مصطفى كمال أتاتورك لقاءه بالسفير المصري عبد الملك حمزة مجددًا في احتفالات رأس السنة الميلادية (1933) في أنقرة، ليعيد المياه إلى مجاريها مع المصريين. يقول محمد حرب: «وفي رأس السنة، دار حوار جديد بين أتاتورك وحمزة بك السفير المصري في تركيا. وكان حمزة بك هذه المرة حاسر الرأس بغير طربوش. ودار الحوار التالي:
أتاتورك (باستهزاء بالغ): لماذا لا تلبس الطربوش؟
حمزة بك صمت مندهشًا من السؤال..
أتاتورك: لماذا كتبت عني تقريرًا إلى حكومتك؟ فقابله حمزة بك بالصمت من جديد..
أتاتورك: إذا لم ترتدِ الطربوش في حفل 29 أكتوبر القادم، فإني أنا الذي سأكتب عنك تقريرًا وأرسله إلى حكومتك، أقول فيه إنك لا ترتدي الطربوش».

يتابع: «ثم أعقب ذلك صدور بيان من الحكومة في البرلمان المصري في 23 يناير 1933، أكد على عدم وجود مشكلة بين البلدين». كما توجه مصطفى كمال أتاتورك إلى السفارة المصرية في أنقرة، في 26 مارس من العام 1933، للمشاركة في احتفال عيد ميلاد الملك فؤاد.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع