في دمشق: العثمانيون يفرضون الضريبة على «بنات الهوى»

مقهى عثماني

مقهى عثماني

كتب- خالد أبو هريرة

مرت دمشق في منتصف القرن الـ18 الميلادي، بظروف اقتصادية خانقة، نتجت عن عوامل عدة، منها فساد الإدارة العثمانية، ممثلة في الباشا الوالي وأعوانه، وموجات القحط والأوبئة المتتالية التي ضربت المدينة، والصراعات الدامية على بين الطوائف العسكرية العثمانية على السلطة في دمشق، وأخيرا الثورات المحلية المستمرة ضد الحكومة، من قبل مجموعات مختلفة، تبدأ من طبقة الأشراف الدمشقيين، وتصل إلى الدروز، وتختتم بعوام دمشق أنفسهم.

لعب هذا الاضطراب المتواصل دورًا حاسمًا في نشوء خلل إجتماعي واضح بدمشق، حتى زادت الفوارق بين الطبقات الاجتماعية بحدة، فكان الباشا والمحاسيب عليه يرفلون في النعيم، والذي توفر لهم بفضل احتكار الثروة، بينما عانى معظم سكان المدينة من فقر شديد، الأمر الذي دفع الكثير من رجالها إلى امتهان السرقة والنهب، وتحول فئة من نسائها إلى العمل في البغاء، بعد أن يئسن من الرزق الحلال.

في كتاب (حوادث دمشق اليومية)، للمؤرخ الشعبي «أحمد البديري»، والمشهور بـ حلاق دمشق، صورة عن العاملات في البغاء بدمشق خلال ذلك العصر، ويطلق البديري عليهن لقب (بنات الهوى). وهو يشير إليهن بأسى في مواضع متفرقة من حولياته، ويختتم حديثه عنهن بالتأكيد على أن السلطات العثمانية في المدينة، بدلًا من أن تصلح من شأنهن، وتعالج أسباب الانحراف لديهن، فإنها لجأت إلى التكسب من ورائهن، ومقاسمة كل واحدة منهن في أجرها الذي تتقاضاه عن العمل الحرام.

كان أول ظهور لبنات الهوى عند حلاق دمشق، في أحداث العام 1747، عندما عزا هجوم الجراد المهلك للمحاصيل في الشام في ذلك العام إلى البعد عن الدين، وكثرة الفساد، والذي كان من أهم تجلياته كثرة بنات الهوى في شوارع وأزقة دمشق دون رادع أو مانع من الحكومة العثمانية.
يقول أحمد البديري: "ثم في تلك الأيام (1747) كثر الجراد وأضر بالعباد، وكأن الناس لم يجمعوا منه شيء كذا، وهذا كله مع ازدياد الفجور والفسق والغرور والغلاء والشرور. فخرج الشيخ إبراهيم الجباوي ومعه التغالبة (نسبة إلى بني تغلب من مشاهير قبائل العرب) بالأعلام والطبول، وقصدوا زيارة السيدة زينب، واستغاثوا عندها بكشف البلاء عن العباد، ورجعوا آخر النهار، ثم داروا حول مدينة دمشق، ومروا أمام باب السرايا وعملوا دوسة، وصار حال عظيم وبكاء شديد، وشعلت قناديل الرجال أصحاب كذا، وهم يدعون بهلاك الجراد ورفع البلاء. وبعد يومين جاءت أهل الميدان بطبول وأعلام وحال وصريخ، وقصدوا جامع المصلى بالدعاء برفع الجراد وهلاكه. ويقولون: يا من له المراد في كل ما أراد، بالمصطفى الحبيب فرج عن البلاد، فلم يفد ذلك.. فكيف يفيد ذلك وأكثر النساء قد باحت، وبنات الهوى وهن كذا الخاطئات دائرات ليلاً ونهاراً في الأزقة والأسواق، ومعهم الدالاتية (فرقة عسكرية عثمانية) والفساق، ولا أحد يتكلم بقيل وقال، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن المنكر، والصالح في هم وكرب، والفاجر والطالح متقلب في لذيذ نعيم، اللهم فرج آمين".

وقد زاد ظهور بنات الهوى في دمشق خلال العام التالي (1748)، وبات من الواضح لأهالي المدينة أنهن صرن يمثلن فئة مميزة، لها نظامها الخاص، وقدرتها حتى على الحشد في شوارع دمشق دون إعاقة. ويقص البديري حكاية طريفة في ذلك قائلا: "وفي تلك الأيام، ازداد الفساد وظلمت العباد وكثرت بنات الهوى في الأسواق في الليل والنهار. ومما اتفق في حكم أسعد باشا في هذه الأيام أن واحدة من بنات الهوى عشقت غلاماً من الأتراك، فمرض، فنذرت على نفسها إن عوفي من مرضه لتقرأن له مولداً عند الشيخ أرسلان. وبعد أيام عوفي من مرضه، فجمعت شلكات (لقب لبنات الهوى) البلد وهن المومسات، ومشين في أسواق الشام، وهن حاملات الشموع والقناديل والمباخر، وهن يغنين ويصفقن بالكفوف ويدققن بالدفوف، والناس وقوف صفوف تتفرج عليهن، وهن مكشوفات الوجوه سادلات الشعور، وما ثم ناكر لهذا المنكر، والصالحون يرفعون أصوام ويقولون: الله أكبر".

تحرك الأعيان من أهالي دمشق لإصلاح ذلك الوضع المعيب. وصعدوا إلى القلعة للقاء الوالي أسعد باشا العظم ومطالبته بالتصدي لبنات الهوى. يقول البديري: "وفي هذه الأيام عملوا ديوان، وأخبروا أسعد باشا بكثرة المنكرات واجتماع النساء بنات الهوى في الأزقة والأسواق، وأنهم ينامون على الدكاكين وفي الأفران والقهاوي. وقالوا: دعنا نعمل لهن طريقاً إما بترحيلهن أو بوضعهن بمكان لا يتجاوزونه، أو نتبصر في أمرهن. فقال: إني لا أفعل شيئا من هذه الأحوال، ولا أدعهم يدعون علي في الليل والنهار، ثم انفض المجلس، ولم يحصل من اجتماعهم فائدة".

ورواية حلاق دمشق هنا، تقدم لنا صورة حزينة عن البغايا، فقد كن في الحقيقة بلا مأوى، بما يعني أن العمل الذي ارتضينه لم يكن يمنح الواحدة منهن إلى ما يكاد يسد الرمق. وبدلا من أن يسعى الباشا أو الأعيان إلى إصلاح أمورهن، وإعادتهن إلى الطريق القويم، ترى الأهالي لا هم لهم سوى التخلص من "العيب" و"الحرام"، بينما الباشا لم يبدي حرصا إلا على بقاء نفسه بعيدا عن دعوات البغايا الغاضبات.

على أية حال، لم يدم ذلك الموقف السلبي طويلا، فوفقا لـ حلاق دمشق، أدى تصاعد الشكوى من بنات الهوى إلى خروج الأمر من أسعد باشا العظم بنفيهن خارج دمشق. وكانت بداية تطبيق القرار - كما هو معتاد - متشددة ومتصلبة، ثم ما لبثت أن خفتت مع مرور الوقت، وعادت بنات الهوى للظهور مرة أخرى في شوارع المدينة، وتبين أن الباشا قرر استبدال قرار النفي، بقرار فرض ضريبة على البغايا. يقول البديري: "وفي ذلك اليوم أمر الحاكم بأن يخرجوا بنات الهوى، وهن الشلكات من البلد إلى خارج البلد، وأظهر أنه يريد أن ينفيهن إلى بلاد أخرى، ونبه على مشايخ الحارات أن من وجد في حارته ذو شبهة لا يلومن إلا نفسه، ثم نادى منادي إن النساء لا يسبلن على وجوهن مناديل، إلا حرم الباشا ونساء موسى كيخيا. ثم شرع أعوان الحاكم بالتفتيش وشددوا، فانفرجت بعض الكربة، ثم ما بقي هذا التشديد غير جملة أيام، إلا وقد رأينا البنات المذكورات يمشين كعادتهن في الأزقة والأسواق وأزيد، ورجعن إلى البلد، ورتب الحاكم عليهن في كل شهر على كل واحدة عشرة قروش وجعل عليهم شوباصياً (وظيفة إدارية تعني الوكيل، ومن مهمته المراقبة والتفتيش).. والله المستعان".

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع