بمشاركة 6 دول.. شركات تركية تروج لصناعاتها الدفاعية في أنقرة
الباشا العثماني قلع الرخام وهدم دار معاوية.. عن قصر آل العظم في دمشق

قصر آل العظم - دمشق
كتب: خالد أبو هريرة
إلى الجنوب من الجامع الأموي في دمشق، وفي نهاية سوق البزورية، يقع قصر آل العظم الرائع، الذي شيده والي الشام العثماني أسعد باشا العظم في منتصف القرن الـ18 الميلادي. وبعيدا عن قيمته الكبرى في تاريخ العمارة العثمانية، والتي دفعت البعض إلى تفضيله حتى على سرايات السلاطين العثمانيين في إسطنبول نفسها، فإن قصر آل العظم يمتلك حكاية مميزة، عكست في تفاصيلها الشائقة طبيعة العلاقة التي جمعت بين الحكام والمحكومين في سوريا العثمانية، ورؤية أولئك الأخيرين المغايرة إلى تلك المباني الرائعة، كحجارة شيدت في الأصل على حسابهم، وفي سبيل راحة الباشا وحده، ومعه خاصته.
يروي لنا المؤرخ الشعبي الدمشقي أحمد البديري، والمعروف بـ حلاق دمشق، حكاية قصر آل العظم في كتابه (حوادث دمشق اليومية)، بادئا حديثه بمفاجأة، إذ يقرر أن أسعد باشا العظم إنما أقام قصره في الموضع الذي كانت فيه دار معاوية بن أبي سفيان، مؤسس الخلافة الأموية، وأول من نقل عاصمة الإسلام من المدينة المنورة إلى دمشق.
يقول البديري في حوادث العام 1163/ 1750: « وفي تلك الأيام أخذ الوزير أسعد باشا دار معاوية رحمه الله، وأخذ ما حولها من الخانات والدور والدكاكين وهدمهم، وشرع في عمارة داره السرايا المشهورة التي هي قبلي (جنوبي) الجامع الأموي، وجد واجتهد في عمارتها ليلًا ونهارًا، وقطع لها من جملة الخشب اثني عشر ألف خشبة، وذلك ما عدا الذي أرسلوه له أكابر البلد والأعيان من الأخشاب وغيرها، ورسم على حمامات البلد أن لا يُباع القصرمل (مونة للبناء من رماد الأفران والرمل) لأحد، بل يُرسَل لعمارة السرايا، واشتغلت بها غالب معلمي البلاد ونجَّاريها وكذلك الدهَّانين، بل قلَّ أن يوجد معلم متقن أو نجار أو دهان كذلك إلا والجميع مشتغلون بها».
إضافة إلى احتكار مواد البناء والبنائين، فقد عمد أسعد باشا كذلك إلى حشد كل البلاط والرخام الموجود في دمشق تقريبا لوضعه في السرايا الخاصة به، وكان يدفع فيه الثمن البخس. يقول البديري: «وجلب لها (أسعد باشا) البلاط من غالب بيوت المدينة أينما وجدوا بلاطًا أو رخامًا أو غير ذلك مثل عواميد وفساقي يرسل فيقلعهم ويرسل القليل من ثمنهم».
لم تكن دار معاوية الأثر الوحيد الذي فقد لصالح قصر آل العظم، فقد سطا الباشا كذلك على أطلال قصر مملوكي يسمى الزهرانية، إضافة إلى طاحونة قديمة. يقول حلاق دمشق: «وكان في قرب بركة البرامكة قصر يُقال له الزهرانية، قيل هو من عمارة الملك الظاهر، وهو على ظهر بانياس مطل على المرجة، وكان منتزهًا عظيمًا تهدَّم غالبه، وفي قربه مدفن وعليه قبة من حجر ورأس القبة مقلوع وفيه وهدة … أخبروا حضرة الوزير أسعد باشا العظم صاحب العمارة عن هذه القبة وعن المدفن الذي بجنبها، وأن الأراذل الأشقياء يجتمعون عندها هناك ليلًا ونهارًا على فِسْق وفساد وغير ذلك، فأمر بهدمها حالًا ونقل حجارتها إلى داره».
يتابع: «وفي تلك الأيام بلغ الوزير أسعد باشا أن في وادي كيوان طاحونة قديمة يُقال لها طاحون الرهبان قد تهدَّمت، ولم يَبْقَ منها سوى رسوم أسفلها، وأنها مركَّبة على بانياس، فحالًا أمر حضرة الباشا بقطع نهر بانياس وأن يُخرِجوا جميع ما فيها من أعمدة وأحجار وينقلوهم إلى الدار، فاشتغلت الفَعَلَة والحجَّارة والبَسَاتِنَة، واستقاموا يقلعون الأحجار وينقلونها إلى دار الباشا إثني عشر يومًا والنهر مقطوع عن أصحابه».
أعمدة الرخام أيضا كانت مستهدفا أصيلا لأسعد باشا، حتى إنه أخذها من أماكن شتى في الشام. يقول البديري: «وفي يوم الخميس سادس وعشرين ربيع الثاني من هذه السنة، عمل حسن أفندي السفرجلاني وليمة لحضرة أسعد باشا بالصالحية في قاعة ابن قرنق، وكانت ضيافة عظيمة قيل تكلف عليها نحو إحدى عشرة مائة قرش، فنظر حضرة الباشا إلى سرَوات شاهقات في داره، فطلب من صاحبهم علي آغا ابن قرنق قَطْعهم لأجل عمارة داره، وعرض الباشا عليه شيئًا من المال فأبى أن يأخذ شيئًا، وقطع له ثلاث سروات ليس لهم نظير في الشام ولا في غيرها، ونقل من قرية بصرى أحجارًا وأعمدة من الرخام شيئًا كثيرًا، وأخذ من مدرسة الملك الناصر التي في الصالحية أعمدة غلاظًا جيء بهم محمَّلين على عربات تُجَرُّ بالبقر، وهدم سوق الزنوطية التي فيها حارة العمارة، وكان كله أقبية معقودة فأمر بفكه ونقله إلى داره المشار إليها، ونقل إليها أيضًا أعمدة من جامع يلبغا. وإنه مهما سمع ببلاط بديع أو أعمدة أو أحجار من أي محل، كان يأتي بها شراءً وغير شراء».
وقد ظل الباشا يتأنق في بناء قصره، منشغلا عن الأحداث اليومية الجارية في دمشق، حتى إن واحدا من العسكر العثماني قتل في سوق البزورية بالقرب من موقع بناء السرايا، ولم يهتم أسعد باشا أصلا بالتحقيق في الموضوع، والبحث عن القاتل ومعاقبته. كما توسع الباشا في احتكار البنائين، حتى خلت المدينة من عامل يمكنه تشييد مبان أخرى غير السرايا. وأخيرا استمر في جلب المياه الداخلة إلى دمشق إلى ناحية قصره قصره، حتى انقطعت المياه عن معظم أجزاء المدينة.
يقول حلاق دمشق «ظل وزير الشام (أسعد باشا) مشغولا في عمارة داره، ولم يلتفت إلى رعاياه وأنصاره ويقول: ائتوني بحجارة المرمر والرخام، وتفننوا بالبناء والنقوش والتحلية بالذهب والفضة، وجلب عواميد الرخام على العجلات والبقر من بصرى، وخرب سوق مسجد الأقصاب، واستجلب جميع ما فيه من أحجار وأخشاب، وكل ما سمع بقطعة أو تحفة من رخام أو قيشاني أو غيرها يرسل فيأتي بها إن رضي صاحبها أو أبى. وإذا أراد الفقير أن يعمر أو يرمم لم يجد معمارياﹰ ولا نجاراﹰ ولا خشباﹰ ولا مسماراﹰ ولا تراباﹰ ولا قصرمل ولا أحجار، وهذا مع غلاء الأسعار وحلول الأكدار .وقد أخذ حضرة الباشا قدراﹰ وافياﹰ من ماء قنوات، فما وصل إلى السرايا حتى تقطعت السبل ومياه غالب الجوامع والحمامات، وبقي مدة مقطوعاﹰ حتى عن غالب البيوت».
وعلى الرغم من كل ذلك، لم يهنأ أسعد باشا العظم طويلا بالقصر بعد أن افتتح أخيرا وصار بهجة للناظرين، إذ عزل بعد سنوات قلائل عن ولاية الشام ونقل من قبل السلطان العثماني إلى ولاية حلب شمال سوريا. ثم في العام 1758، قتل أسعد باشا العظم، وأتت إلى دمشق لجنة من إسطنبول لمصادرة قصره المنيف.
يقول حلاق دمشق في حوادث سنة 1171/ 1758: «وفي تلك الأيام جاء الخبر بقَتْل أسعد باشا ابن العظم والي الشام سابقًا، وبعد أيام جاء قبجي من جهة الدولة بخَتْم سرايتِه وضَبْط مالِه وخَتْم بيوتِ جميعِ أتباعه وأعوانه، وضَبْط مالهم ورفعهم إلى القلعة، وازدادت الشدة وصارت أمور وأهوال في دمشق الشام ما وقعت في سالف الأزمان، ثم جاءت أتباع ابن العظم أسعد باشا، ودخل القبجي إلى السرايا فأخرج الدفائن العظيمة من سرايته، فإذا هي كالكنوز المودوعة فيها، فأخرجوا من الأرض ومن الحيطان والسقوف والأحواض دراهم ودنانير وأمتعة نفيسة لا تقام بقيمة، ومجوهرات مما لا يعلمه إلا الله تعالى، والحكم لله العلي الكبير».
شاركنا بتعليقك
تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع