سنوات الفساد والثورة.. حكاية 4 قرون من الوجود العثماني في الشام (2)

الشام

الشام

كتب: خالد أبو هريرة

لما تزايدت المظالم العثمانية في بلاد الشام خلال القرن السابع عشر الميلادي، بدأت الثورة في التوالد على نطاق واسع بين العرب في البلاد، خاصة في جبل لبنان الذي قام حاكمه الأمير فخر الدين المعني الثاني بحركة عسكرية استهدفت الاستقلال بالبلاد عن سطوة العثمانيين، اعتبرها المؤرخون القوميون في سورية، ونتيجة صمودها لوقت معتبر، وانفتاحها على التقنيات العسكرية الأوروبية، مخاضا للدولة القومية العربية في لبنان، بل وفي أقطار الشام جميعا.

يقول المفكر السوري محمد سعد أطلس في الجزء المعنون بـ (عصر الانحدار) من كتابه (تاريخ الأمة العربية) عن الأوضاع السياسية المتردية في الشام والتي أدت إلى الثورة على العثمانيين: "لما دخل القرن العاشر الهجري/ السابع عشر الميلادي، ازدادت نكبات أهل الشام، وكثر تعاقب الولاة عليهم، وكل واحد منهم يسرق وينهب ثم يترك البلاد أو يخلع عنها، وقد بلغ عدد ولاة دمشق خلال هذا القرن واحدًا وثمانين واليًا، كما بلغ ولاة حلب تسعة وأربعين، وازداد الاضطراب في البلاد حتى أصبحت رتبة الولاية تباع وتشرى كالسلع، وأصبح الوالي جابيًا لا غير، والوالي الأفضل عند السلطان العثماني والصدر الأعظم العثماني — أي رئيس الوزراء — هو الذي يزيد في جمع الأموال عن سابقه، يُكثر تقديم الهدايا، وقد ازداد البلاء على الأهلين حينما اشتدت حملة العساكر العثمانية المعروفة باسم «الإنكشارية» الذين انساحوا في البلاد يفسدونها".

يتابع: "ويظهر أن الأعيان والأهالي المساكين الذين ضاقوا ذرعًا بالعساكر العثمانية أخذوا يفكرون في التخلص منهم، فنظموا أمورهم، وعزموا على الإفلات من ربقة الأتراك، وكان أول هؤلاء هو أمير بني معن فخر الدين الثاني، فإنه رأى ما تلاقيه بلاده من ظلم الأتراك؛ فشرع في إعداد حملة للتخلص منهم، وقد أحس الولاة العثمانيون بذلك فراقبوا أعماله وحركاته، وأخذوا يضيقون عليه خوفًا من امتداد سلطته ونفوذه من جبل لبنان إلى سائر أصقاع الشام، إلى أن كانت سنة ١٠٢٠ﻫ فطلبت الدولة العثمانية إلى والي دمشق أحمد حافظ باشا أن يتوجه للقضاء على الأمير المعني، كما طلبت إلى ولاة ديار بكر حلب وطرابلس أن يؤازروا والي دمشق، فتوجه الجميع لقتاله في جيش يبلغ ثلاثين ألفًا، واستطاع الأمير المعني أن يصمد أمامهم نحوًا من تسعة أشهر، ثم رأي أن يترك البلاد مؤقتًا ويذهب إلى إيطاليا".

في إيطاليا، أقام فخر الدين المعني "نحوًا من خمس سنوات تعرف خلالها إلى النهضة الأوروبية الحديثة، ثم عاد إلى بلاده، وقد أحضر معه بعض المهندسين الحربيين وكثيرًا من أهل الصناعات الحربية، وشرع يعد العدة للقضاء على نفوذ الولاة العثمانيين الذين اشتدت مخاوفهم منه بعد أن خضعت له كافة قبائل الدروز والنصيرية والموارنة في الساحل والداخل، وامتد سلطانه من أنطاكية إلى بلاد صفد وبعلبك، وقد حاولت الدولة العثمانية مرات القضاء عليه فلم توفق إلى أن كانت سنة ١٠٤٣ﻫ فبعثت الدولة والي دمشق أحمد باشا الأرناءوط لقتاله فظفر به وقتل ابنه وأخاه، وسيَّره أسيرًا إلى الباب العالي في الأستانة، فاعتذر للسلطان وعفا عنه وأبقاه عنده، ولكن لما ثار الأمير ملحم في لبنان وكسر الجيش العثماني صدر أمر السلطان بقتل الأمير فخر الدين، وبقتله قُضي على فكرة الاستقلال والتخلص من النفوذ التركي، وقد كان هذا الأمير من محاسن الدهر؛ لحسن سياسته وكياسته، وحبه للسير في مواكب الحضارة والتطور".

عقب فشل حركة فخر الدين، عادت الأمور إلى سابق عهدها في الشام. فقد عهدت الدولة العثمانية "بولاية سورية إلى أحمد باشا الكوبرلي ابن الصدر الأعظم محمد باشا الكوبرلي، فقدمها، وكان شابًّا شديد الحماسة، فأغار على بقايا المعنيين وآل شهاب فشردهم من ديارهم، وهدم قصورهم في حاصبيا وراشيا، وقطع نحوًا من خمسين ألف شجرة توت كانت مصدر ثروة للبلاد؛ لاستعمالها في إنتاج الحرير الطبيعي، فكسدت الأسواق وفسدت أحوال البلاد، ويظهر أن الدولة العثمانية قد أحست بالفساد وسوء حالة البلاد لسوء إدارة الولاة، وللإقطاعات التي كان يسيطر عليها كثير من الأمراء المحليين، مثل آل شهاب، وآل معن، وآل الحرفوش، وآل سيفا، وآل سرحان، وآل حيمور، فحاوت التخلص منهم، إما بمحاربتهم والقضاء عليهم أو بإيقاع الشر فيما بينهم، وقد استمرت هذه الأحوال القلقة حتى نهاية القرن الحادي عشر للهجرة".

من جديد، عاد الأمراء العرب في الشام إلى تدشين حركات سياسية هدفها تقليص نفوذ الأتراك. يقول سعد أطلس: "فلما جاء القرن الثاني عشر وتولى عرش السلطنة العثمانية الملك مصطفى الثاني ١١٠٦–١١١٥ﻫ، وكان رجلًا كيسًا، رأى سوء الحالة التي صارت إليها الإمبراطورية العثمانية، فأمر بالقيام بإصلاحات واسعة في سائر أنحائها، ولكن ولاته في الشام لم يبدلوا خطتهم، وظلت البلاد على حالتها السيئة، وفي هذه الفترة لمع في الشام نجم أمير من بني شهاب هو بشير الشهابي، وكان على جانب عظيم من الدهاء والذكاء والسياسة، فولاه قبلان باشا والي الشام في سنة ١١١٠ﻫ على إيالة صيدا، فسار بالبلاد سيرة حسنة، وسعى في تقوية السلطان العربي، وامتد سلطانه من حدود بلاد صفد إلى حدود المعاملتين حتى أصبح السيد المطاع في الديار الشامية كلها، ويُعتبر عهده من أزهى العصور في هذه الفترة، إلى أن مات في سنة ١١١٩ﻫ".

يتابع: "وفي سنة ١١٢٠ تولى الشام نصوح باشا، وكان شديد الفتك والعنف، وظل في ولايته إلى سنة ١١٢٦ﻫ، وفي هذه الفترة كثر اللصوص في البلاد، وعمت الفوضى، واضطرب حبل الأمن في أكثر مدن الشام، وخصوصًا في لبنان؛ للفتن التي وقعت بين مشايخ المتاولة والأمراء الشهابيين والانكشارية، إلى أن تولى الشام إسماعيل باشا العظم في سنة ١١٣٧ﻫ وكان حاكمًا عادلًا فأحبه الناس، وتولى إمرة الحج عدة مرات، وانتهى به الأمر أن غضب عليه الباب العالي في سنة ١١٤٣ﻫ فحُبس في قلعة دمشق، واستأصلت الدولة العثمانية أمواله وأموال أهله، ثم أُفرج عنه فاستقر في دمشق، وأعقب الباشوات أسعد وسعد الدين ومصطفى، وكلهم تولى الوزارة أو الولاية في دمشق أو حماه أو صيدا أو طرابلس، حتى جاء زمن صاروا فيه وحدهم حكام الديار الشامية جميعها. قال المرحوم الأستاذ محمد كرد علي: «عظمت دولتهم؛ لأنهم أخلصوا في الغالب للدولة كل الإخلاص، حتى أمنتهم ووسدت إليهم الأحكام في الشام، وتركتهم يعملون ما يشاءون، وجاء دور وهم حكامها من أقصاها إلى أقصاها، وكان بنو العظم كسائر الأسر القديمة التي تغلبت على بعض أصقاع الشام أمثال بني معن، وبني شهاب، وبني الحرفوش، وبني سيفا، وبني طرابيه، ومنهم الصالح والطالح، وهل هم إلا نموذج من عصرهم، ولا شك أنهم جمعوا أموالًا كثيرة؛ لأن حكوماتهم طالت أيامها، والولاية بالالتزام، فكان الوالي منهم كسائر الولاة يرضي الأستانة بمبلغ ويبقي له بعد كل إسراف مبلغ كبير، وهو الحاكم المتحكم في ثروة البلاد والأفراد".

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع