«المذبحة الخيرية».. تفاصيل الأيام الأخيرة في حياة الانكشارية

السلطان محمود الثاني

السلطان محمود الثاني

كتب: خالد أبو هريرة

بعد أن تحولت الانكشارية إلى المعوق الرئيس أمام أي محاولة للإصلاح في الدولة العثمانية في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، أصبح التفكير في التخلص من الفرقة العسكرية الأشهر في التاريخ العثماني، بل وإبادتها، أولوية بالنسبة للسلاطين من آل عثمان. وقد قدر لواحد من أولئك الأخيرين، وهو السلطان محمود الثاني، أن يتولى الأمر وحده، ويجهز على الانكشارية فيما عرف باسم الواقعة الخيرية عام 1826، والتي كانت في حقيقتها أياما طويلة مروعة، سالت فيها الكثير من الدماء، وأزهقت فيها العديد من الأرواح إما بضربة من سيف، أو بطلقة من مدفع، أو برصاصة من بندقية.

عن تلك الأيام التي كتبت الفصل الأخير في حكاية الانكشارية الطويلة، يدور التقرير التالي..

يقول مؤرخ القومية العربية ساطع الحصري في كتابه (البلاد العربية والدولة العثمانية) عن الصدام بين الانكشارية وكل سلطان عثماني يبدي الرغبة في تحديث الجيش: «كان أول السلاطين العثمانيين الذين حاولوا إصلاح الجيش وتدريبه على الفنون الحديثة هو السلطان مصطفى الثالث والذي تولى الحكم في العام 1757. فقد أخذ يستعين ببعض الخبراء والضباط الأوروبيين لتدريب الجنود على الأساليب العسكرية الحديثة، وكان ذلك إيذانا بظهور المعارضة ضده، إذ هب الإنكشارية ينتقدون هذا الاتجاه ويستنكرونه، وصاروا يقولون: إن ولي الله الحاج بكتاش قد بارك جماعة الانكشارية عند تأسيسها ودعا لهم النصر الدائم، ولهذا فإن بركته ودعاؤه يغنيهم عن كل تعليم».

وعندما تولى العرش السلطان سليم الثالث، استمر اعتراض الانكشارية على محاولات التحديث العسكري، والتي أبدى سليماً رغبة أكيدة فيها. يقول الدكتور علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث): «اشتدت معارضة الانكشارية في عهد السلطان سليم الثالث الذي كان هو الآخر من المصلحين، أدخل في الجيش ما يسمى بالنظام الجديد، وهو الذي يقوم على أساس التعليم العسكري وفق الأساليب الأوروبية، فقد هب الانكشارية لمقاومة هذا النظام، يؤيدهم المتعصبون من رجال الدين، وأخذوا يشنعون عليه بما مفاده أن التعليم العسكري من الأمور التي لم يعرفها الإسلام، وأن الفتوحات الإسلامية كلها تمت من غير تعليم/ علاوة على أن النظام الجديد بدعة وكل بدعة حرام، والأخذ به يؤدي إلى التشبه بهم وقد منع الإسلام من ذلك».

يتابع الوردي: «وفي العام 1807، ثار الانكشارية على السلطان سليم فحاصروه في قصره، ثم حصلوا على فتوى شرعية هذا نصها: (هل يحق للسلطان الذي يحارب مسلكه وأنظمته القواعد الدينية المقدسة التي نص عليها القرآن الكريم البقاء على العرش؟.. الجواب: كلا). فخلعوا السلطان بناءاً على هذه الفتوى، ثم قتلوه بعدئذ، ونصبوا مكانه سلطانا جديدا يلائم رغباتهم. ولكن دعاة الإصلاح قاموا بثورة مضادة برئاسة مصطفى باشا البيرقدار وزحفوا على العاصمة واستولوا على الحكم، ثم نصبوا على العرش شابا يبلغ من العمر السادسة عشرة هو السلطان محمود الثاني، وأصبح مصطفى باشا البيرقدار وزيره الأعظم، وقد عمل هذا الوزير بنشاط في سبيل إصلاح الجيش وفي القضاء على العناصر المشاغبة. وسكت الانكشارية ورجال الدين من المؤيدين لهم في بداية الأمر».

لكن صمت الانكشارية لم يلبث أن تحول إلى ثورة. يقول جرجي زيدان في كتابه (تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر): «وما زالت الأحزاب تتعاظم وتتكاثر حتى صاروا يجاهرون بذلك في مجتمعاتهم العمومية، واتفق ذات يوم أن البيرقدار كان سائرًا بموكبه الحافل والشوارع غاصة بالجماهير، فأمر رجاله أن يبعدوا الناس عن الطريق بالعنف وأن يضربوا من لا يطيع الأمر حالًا فنفر الناس إلى القهوات والجوامع، وقد عدوا ذلك استبدادًا وعتوًّا وأخذوا ينقمون عليه، فاجتمع جماعة منهم إلى آغا الإنكشارية وتوسلوا إليه أن ينقذهم من استبداد ذلك الرجل، وكان الإنكشارية أشد منهم رغبة في قتله فتواطئوا على مهاجمة منزله بغتة، فهجموا عليه وأحرقوه بما فيه من الرجال والنساء، وكان البيرقدار في جملتهم فذهب فريسة النار فتخلصت الآستانة منه، ولكنه لا يزال معدودًا من جملة أهل الإصلاح لما آتاه من الأعمال العظيمة، وما خصه الله به من المواهب التي رفعته من حضيض الفاقة إلى منصة الصدارة العظمى، ويُروى عنه أعمال تدل على قسطه وعدله مما يطلق الألسنة بالثناء عليه».

أمام تلك التطورات الخطيرة، اضطر السلطان محمود الثاني أن يصدر فرمانا يعلن فيه إلغاء (عادات الإفرنج) التي استحدثت في نظام الجيش، ويشجبها ويلعنها، ثم أعاد كل قديم على قدمه. وعلي الوردي يؤكد أن ذلك التحول من محمود الثاني، لم يكن أكثر من محاولة لتفادي مصير سابقيه المؤلم على يد الانكشارية، إضافة إلى أنه أراد أن «يعطي نفسه مهلة للاستعداد للكفاح من جديد، ولكن في ظروف أفضل».

وبعد فترة طويلة من الصراعات الخارجية التي خاضها محمود الثاني ضد روسيا، وكذلك ضد الثورة المندلعة ضد الحكم التركي في اليونان، رأى السلطان العثماني أن الوقت قد حان للانقضاض على الانكشارية. يقول جرجي زيدان: «جمع محمود الثاني رجال دولته بحضرة المفتي أفندي، وخطب الصدر الأعظم إذ ذاك محمد سليم باشا خطابًا عدد فيه ما وصلت إليه قحة الإنكشارية مع ما هم فيه من القصور في النظامات الحربية الجديدة، وطلب إليهم أن يبدوا رأيهم فيما يجب اتخاذه من الوسائل؛ لملاقاة ما يهدد المملكة العثمانية بسبب ذلك، فأقر الجميع وفي جملتهم آغا الإنكشارية على اتخاذ الوسائل الفعالة فتلا المكتوبجي أمرًا قاضيًا بتنظيم جيش جديد باسم «إيكنجي» وتهذيبه، فوقَّع الجميع على وجوب تنفيذ ذلك الأمر، وتُلِيَ ذلك بعدئذ على ضباط الإنكشارية فقبلوا به فأخذوا في تنظيم الجيش، وفي ٦ ذي الحجة عام ١٢٤١ﻫ/١٢ يونيو ١٨٢٦ استعرضوه وشرعوا في تهذيبه للمرة الأولى في ساحة الميدان».

يتابع زيدان: «أما الإنكشارية فحالما شاهدوا ذلك النظام نسوا عهودهم لما رأوا في الأمر مما يحط من سطوتهم ونفوذهم، وأخذوا يتحدثون سرًّا وينقمون على تلك البدعة، فحاول الصدر الأعظم قمعهم سرًّا وجهرًا فلم يزدادوا إلا عنادًا، حتى هجموا أخيرًا على منزله للإيقاع به فلم يظفروا بشخصه؛ لأنه لم يكن هناك، فتفرقوا في المدينة يصادرون المارة والباعة، فبعث الصدر إلى السلطان بالأمر وأمر ضباطه وجنده الخصوصيين فحضروا في السراي. أما الإنكشارية فأصروا على أعمالهم وجاهروا بطلب رءوس الذين أشاروا بتنظيم ذلك الجيش، فوقف الصدر الأعظم وحوله من رجاله والعلماء والمشائخ عدد غفير في انتظار مجيء السلطان، وكان في بشكتاش فأسرع إلى السراي يخطب في الجماهير فأنهض هممهم، فأقسموا على الثبات حتى يفوزوا أو يُقتلوا فداء عن سلطانهم، وطلبوا إليه أن يجرد العلم النبوي الشريف فجرده، ومشى فتبعه الناس وتقاطروا من أنحاء المدينة للدفاع عن السلطان والسنجق الشريف ففرق فيهم الأسلحة ثم سلم العلم إلى المفتي، وجلس في قصر (كشك) فوق باب السراي حيث يشرف على الساحة ويشاهد الجماهير».

ثم «اجتمع الصدر الأعظم والمفتي والعلماء في جامع السلطان أحمد وتلوا الفاتحة وسورًا أخرى بالخشوع التام، ثم نهضوا في هيئة الحرب وفيهم العساكر وأهل المدينة، فأدركوا الإنكشارية وقد تجمهروا في ساحة الميدان، فحاولوا ردهم بالتي هي أحسن فأبوا فأطلقوا عليهم الرصاص، والتحم الفريقان، وكانت المذبحة هائلة عادت فيها العائدة على جند الإنكشارية ومن لم يقتل منهم قِيد أسيرًا، فنجت البلاد منهم وهدأت الأحوال كما نجت مصر من أمراء المماليك بعد أن ذبحهم محمد علي قبل ذلك ببضع عشرة سنة».

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع