1858: السلطان العثماني يبيح اللواط قبل بريطانيا وأمريكا

اللواط

اللواط

في العام 1858، أطلق السلطان العثماني عبد المجيد الأول حزمة تشريعات واسعة عرفت باسم التنظيمات الخيرية، كانت تستهدف النهوض بالدولة العثمانية، ومحاولة إلحاقها بالقوى العظمى في الغرب الأوروبي، عبر علمنة نظامها القانوني، واستبدال قواعد الشريعة الإسلامية الحاكمة بالقوانين الأوروبية الحديثة. وقد برهنت النخب العثمانية على قدرتها على منافسة الغرب الأوروبي - بل وحتى تجاوزه - في إطلاق الحريات لرعاياها. وهو ما ظهر بجلاء في القسم الخاص بالجرائم الجنسية في قانون الجنايات العثماني الجديد، والمعروف باسم قانون الجزاء، والذي أسقط كافة العقوبات السابقة التي كان الفقه الإسلامي يفرضها على الممارسات الجنسية المرفوضة، مثل الزنا واللواط.

ففي قانون الجزاء، أصبحت العقوبات المغلظة فقط توقع في قضايا الاغتصاب الجنسي. أما قضايا الزنا، أي العلاقة الجنسية خارج الإطار الزواج، فقد أصبحت عقوبتها الحبس لفترة تتراوح بين ثلاث شهور وسنتين بدلا من حد الرجم. وأخيرا، ألغيت كل عقوبات الشذوذ الجنسي، أو اللواط، ولم يعد بأي حال جريمة يعاقب عليها القانون العثماني.

رغم وقوع تلك التطورات التشريعية في مفتتح عصر اعتبر بداية التحديث الحقيقي لبنية الدولة العثمانية، وبناء على تأثيرات ثقيلة من الغرب العلماني، فإن إلغاء تجريم اللواط على وجه الخصوص يمكن ربطه أكثر بواقع المجتمعات العثمانية، أكثر منه بالأفكار الوافدة من أوروبا. لأن مسألة تجريم الشذوذ الجنسي في بريطانيا مثلا لن تتم إلا بعد 109 عاما كاملة من صدور قانون الجزاء العثماني، بينما كان على الولايات المتحدة الأمريكية الانتظار لمدة أطول وصلت لنحو 145 عاما بعد عصر التنظيمات العثماني.

يرتبط تحرير اللواط من العقوبة الجنائية في الدولة العثمانية بممارسات الشذوذ الجنسي التي كانت شائعة بكثافة في تلك الدولة منذ نشوئها، دون أن تنجح الأجهزة الدينية الرسمية في ملاحقتها أو تعريضها للعقوبة. بما أن اللواط في الخيال العثماني التصق في الأصل بالتقاليد الطقوسية للمتصوفة في إسطنبول، وكان السلاطين العثمانيين، وأعضاء النخب العثمانية معظمهم - إن لم يكونوا جميعا - جزءا من عالم المتصوفة ذاك. وبالتالي منحوا الشذوذ الجنسي رعايتهم، وأظلوه بحمايتهم.

لقد بدأ الارتباط بين العثمانيين واللواط في تركيا من تكايا الطريقة البكتاشية الصوفية، التي ارتبطت بها الدولة العثمانية منذ نشأتها. ففي المعتقد البكتاشي، وكان خليطا عجيبا من المعتقد الشيعي الإثنى عشري، وبعض الثيمات المسيحية، والأعراف التركية البدوية، اعتبر النظر إلى الغلام الأمرد (أي الصبي الصغير الذي لم تنبت لحيته بعد) لونا من العبادة، الأمر الذي اعتبر بابا سمح لأتباع الطريقة البكتاشية، وكان من بينهم سلاطين آل عثمان أنفسهم، بممارسة الجنس مع الغلمان.

ولما كان العثمانيون قد جعلوا من مشايخ البكتاشية الممول الروحي للفرق العسكرية الجديدة التي شكلتها الدولة من الأسرى المسيحيين الصغار، فيما عرف بنظام "الدوشرمة"، فقد أصبح مصير هؤلاء الغلمان الوافدين، خصوصا الذين اختيروا لجمال أشكالهم لخدمة السلطان شخصيا، عرضة للتعرض الجنسي من رأس الدولة العثمانية.

يقول المؤرخ الفرنسي فيليب مانسيل في كتابه (القسطنطينية، المدينة التي اشتهاها العالم): «كان القصر عالما قائما بذاته، وكان دخول غلام جديد يحدث عبر مراسم تطهر صارمة، فكان الغلام الجديد يترك ثلاثة أيام وحده من دون أن يكون هناك أحد يتحدث إليه إلى أن يخبره رئيس الخصيان بأنه قد انضم منذ ذلك الحين إلى صفوف عبيد السلطان. كان شعر الغلمان يقسم إلى ضفائر بالقرب من آذانهم، كتذكير لهم بأنهم يجب أن يظلوا عبيدا للسلطان إلى الأبد وكانوا يعاملون معاملة الكلاب المربوطة المقيدة بمقود من رقبتها، فكانوا إذا خالفوا قاعدة يضربون ضربا مبرحا.. وكان أقدر وأوسم أربعين غلاما يختارون للخدمة في غرفة السلطان الخاصة كان لكل غلام عمل منفصل، فأحدهم كان يعتني بسيف السلطان وآخر ببغاواته وثالث يحلق للسلطان ورابع يقلم أصابع يديه وقدميه. وفي الليل، كانت أسرة الغلمان توزع على زوايا الغرفة الأربعة. وفي وسطها كان يوجد سرير السلطان العريض».

إضافة إلى تلك الرعاية من البكتاشية وشرعنة اللواط، فبعض المصادر تميل إلى تعيين كتاب (قابوس نامه) للأمير كيكاووس من آل زيار والذي ألفه العام 475 هـ/ 1082، كمصدر ثاني برر به بعض العثمانيين ممارستهم للواط. ففي هذا الكتاب، والذي هو أساسا مجموعة من النصائح يقدمها الأمير كيكاووس لابنه، ترد النصيحة التالية: «إذا أردت الصحة والسعادة فعليك بالنساء إذا جاء الصيف، وعليك بالغلمان (أوغلان) إذا جاء الشتاء، لأن جسد الغلمان حار واجتماع حارين في الصيف مضر بالصحة. وجسد النساء بارد فإذا اجتمع باردان في الشتاء جف الجسد».

وعلى الرغم من رفض سعيد أوزتورك وأحمد آق كوندوز في كتابهما (الدولة العثمانية المجهولة) ترجمة أوغلان في نص (قابوس نامه) بالغلام حصرا، وقولهما أنها كانت تعني بالتركية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الشبان والشابات معا، وبالتالي نفي ممارسة اللواط عن السلاطين من آل عثمان، فإن حقيقة أن ممارسة الفاحشة بالصبيان قديمة في الممالك الإسلامية قبل نشوء الدولة العثمانية نفسها، إذ ورثتها تلك الممالك عن الحضارات الأسبق، وورثها العثمانيون عنها بطبيعة الحال، يميل بالمرء إلى المصادقة على أن أوغلان الواردة في نصيحة كيكاووس بعد ترجمتها إلى اللغة التركية، كانت تعني الغلمان الذكور.

ولعل أصدق الأدلة على هذا ما أثر عن ممارسة بعض السلاطين العثمانيين اللواط بصبيان الدوشرمة في أجنحتهم الخاصة. من هؤلاء السلطان الشهير محمد الفاتح، الذي يقول فيليب مانسيل إنه كان مركبا من التناقضات، فهو «وحشي ووديع، قاس ومتسامح، وتقي ولوطي». ويروي عن الفاتح تعشقه للأمير الروماني رادو الوسيم، عندما كان رهينة في البلاط العثماني بأدرنة. ورادو هو نفسه شقيق الكونت دراكولا الثالث، حاكم ترانسلفانيا المتوحش، الذي تحولت سيرته الملطخة بالدماء إلى أسطورة مصاص الدماء الشهيرة.

كذلك عرف السلطان العثماني مراد الرابع بميوله المثلية، والتي جعلته إلى جانب فحولته العسكرية ومطاردته لشاربي القهوة والخمر في شوارع إسطنبول، عاشقا لشخص يدعى موسى جلبي، كانت العاصمة العثمانية تلهج بذكر خلواتهم.

إلى جانب ذلك، فقد أسبغ على اللواط - وعلى شاكلة الدعارة - الصفة القانونية في الأقاليم العربية الخاضعة للعثمانيين. ولدينا نص الرحالة العثماني أوليا جلبي الذي زار مصر في منتصف القرن الـ17 الميلادي، وأشار إلى معاينته بيوت الدعارة واللواط في القاهرة خارج باب اللوق، وتحصيل كبار الفرق العسكرية العثمانية الضرائب من المشتغلين في تلك المهن.

إذن، فعندما أصدر السلطان العثماني عبد المجيد الأول قانون الجزاء، وألغى خلاله أي عقوبة رسمية ضد ممارسات اللواط، كان ذلك ختاما منطقيا لمسيرة طويلة من إباحة الشذوذ الجنسي في العالم العثماني. ولكن مع فارق أن اللواط قبل قانون الجزاء كان منفلتا من العقاب بفعل التحايل، أما بعد صدور القانون، فقد أصبح اللواط حرا طليقا، بما أن قواعد الشريعة كبلت للأبد.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع