«سفر برلك» في العراق.. الوصفة التركية للموت بعيدا عن الوطن

سفر برلك

سفر برلك

كتب: خالد أبو هريرة

كان العراق واحداً من البلدان العربية التي عانت من عواقب «السفر برلك»، وهو المسمى التركي للنفير العام والتعبئة العسكرية للجنود أثناء الحرب العظمى، والتي اشتركت فيها الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا والنمسا، ضد كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا. فعلى شاكلة ما حدث مع العرب في الحجاز والشام وفلسطين، أدى السفر برلك إلى قتل العديد من العراقيين المشاركين في العمليات العسكرية، إضافة إلى تحطيم أو تشريد أسرهم التي فقدت مصدرها البشري للدخل. كما أن العراقيين، وفي مقاربة أخرى مع آثار النفير العثماني العام في البلاد العربية المجاورة لهم، لم يساهموا في الذب عن أوطانهم، بقدر ما سيقوا في طوابير عسكرية طويلة يقودها ضباط أتراك، لخوض مغامرات عسكرية عثمانية في القوقاز وصحراء سيناء، انتهت كلها بالفشل.

 

عن سفر برلك العراق يدور التقرير التالي..

يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث»: «في صباح 3 أغسطس من العام 1914، فوجئ العراقيون بالطبول تدق على غير العادة وشاهدوا على الجدران إعلانات رسم فيها صورة مدفع وبندقية وقد كتب تحتها عبارة تركية: (سفر برلك وار - عسكر أولانلر سلاح باشنة)، ومعناها أن النفير العام قد أعلن وعلى الجنود أن يكونوا على أهبة الاستعداد بأسلحتهم».

يتابع: «كان القصد من هذا الإعلان البدء بالتعبئة العامة دون الاشتراك في الحرب، إذ أن تركيا لم تدخل الحرب إلا بعد ثلاثة أشهر.. ولكن العامة في العراق لم يفهموا ذلك، ولم يميزوا بين إعلان النفير والدخول في الحرب، فساد الوجوم على الكثير منهم واعتبروا الأمر من قبيل البلاء الذي أنزله الله عليهم كما ينزل الطاعون عقابا لهم على ذنوبهم.. وقد كتب محمد رؤوف الشيخلي في مذكراته، وكان يومذاك ضابطا في بلدة الحي، يقول: إن العامة فسروا عبارة (سفر برلك وار) بأنها تعني السفر إلى بلدة (وان) في شرق الأناضول، فهم جعلوا الراء في (وار) نوناً. ولم يقتصر هذا الخطأ على العراق وحده بل إن العامة في الأناضول أيضا قرأوا العبارة بأنها تعني السفر إلى وان».

وفقاً للوردي، فقد «ساعد على شيوع هذا الخطأ بين العامة اهتمام الحكومة بحشد جيوشها في جبهة القوقاز، إذ هي أهملت أمر الدفاع عن العراق وركزت جهودها في تلك الجبهة النائية. وقد كان قادة الحرب في تركيا، وعلى رأسهم وزير الحربية أنور باشا يفكرون بالهجوم أكثر من تفكيرهم بالدفاع، وهم إنما أدخلوا الدولة في الحرب، من أجل توسيع رقعتها لا من أجل الدفاع عنها».

ورغم ضعف القوات العثمانية بالعراق وقت إعلان السفر برلك، إذ لم يكن فيها غير «أربع فرق عسكرية، كان مقرها الموصل وكركوك وبغداد والبصرة، فقد أوعزت القيادة العليا إلى الفرقتين اللتين هما في الموصل وكركوك بالسفر إلى بلاد الشام للمشاركة في حملة سيناء، كما أوعزت إلى الفرقة التي في بغداد بالسفر إلى جبهة القوقاز. وكادت القيادة توعز إلى الفرقة التي في البصرة بالسفر إلى القوقاز أيضا، لولا ممانعة الوالي جاويد باشا».

هذا التفريغ للعراق من قوته العسكرية لم يكن يعني وفقا للوردي إلا «أن القيادة العليا العثمانية كانت تعتبر العراق من المناطق الحربية الثانوية، وقد بنت خطة الدفاع عنه على المتطوعين والعشائر ووحدات الدرك والحدود. وفي 8 أغسطس 1914، وصلت من إسطنبول برقية سرية إلى بغداد تسأل عن إمكانية تأليف قوة من العشائر، لتوجيهها إلى المحميات الإنجليزية من أجل إثارة الناس فيها، وهذا يدل على أن القيادة العليا لم تكتف بإهمال أمر الدفاع عن العراق، بل كانت تحلم أن تجعله قاعدة هجومية ضد الإنجليز، وكانت تظن أن العشائر في العراق قادرة على القيام بهذه المهمة».

قاد ذلك كله الدكتور علي الوردي إلى الحكم بأن «القوات الموجودة في العراق عند إعلان الحرب كانت في حالة مزرية». وهو يستند على مذكرات ضابط عراقي في عصر السفر برلك للتدليل على كلامه: «يقول شكري محمود نديم في كتابه (حرب العراق) ما نصه: (وقد كانت القوة التركية الموجودة في العراق بالإضافة إلى قلتها ناقصة التدريب والعدة والعدد، ولم تكن هناك أية خطط موضوعة لإدامتها في الحرب، وكانت إجراءات النفير ناقصة، ونسبة الهروب عالية جداً. ولم تدرس القيادة التركية قضية الدفاع عن العراق ولم تعد ما يلزم لها من تحصينات وأسلحة دفاعية ولم تجر أية مناورات أو جولات أركان في العراق الجنوبي». ويبين المقدم التركي مقبل بك في كتابه «حرب العراق»، أن «المقر العام التركي لم تتيسر لديه من خرائط العراق عند نشوب الحرب، سوى نسخة واحدة من خريطة للعراق بمقياس (1,500,000/1)، كما لم تتيسر سفن نهرية حربية سوى الباخرة مرمريس. أما سفن النقل فقد كان عددها قليلا جدا. وقد أدى نقص وسائط النقل ورداءة مستوى التدريب والتجهيز إلى عدم حشد الأعداد الكافية في منطقة الخطر، أي منطقة البصرة، بالرغم من إداطلاع القيادة التركية على وصول قوات بريطانية إلى البحرين، واحتمال الإنزال في العراق)».

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع