«لا فرق بين الوالي والقاضي».. عن الرشوة وشراء المناصب في العصر العثماني

العثمانيون

العثمانيون

كتب: خالد أبو هريرة

عندما ضعفت الدولة العثمانية، أصبحت المناصب فيها تباع وتشترى، ولا يعين فيها الأحق بقدراته، وإنما الأغنى بأمواله، ولا فرق في هذا بين منصب دنيوي مثل الوالي أو الدفتردار (يقابل وزير المالية اليوم)، أو منصب ديني (القضاة).

عن الرشوة وبيع المناصب في العصر العثماني، يدور التقرير التالي..

يقول المؤرخ السوري محمد سعد أطلس، في كتاب «عصر الانحدار، تاريخ الأمة العربية»: «مما هو جدير بالذكر في العهد العثماني أن كثيرًا من الولاة والحكام كانوا يشترون مناصبهم بالمال، وربما نالوها بالمزايدة»، وينقل الأستاذ كرد علي عن تقرير لأحد القناصل البندقيين أن منصب الوالي كان في الأستانة يكلف من «٨٠ إلى ١٠٠» ألف دوكا، ومنصب الدفتردار كان يباع ﺑ «٤٠ أو ٥٠» ألف دوكا، ومنصب القاضي كان يساوي أقل من هذه القيم، و«كلهم إذا جاءوا البلد الذي عينوا له كانوا يسلبون النعمة ويعرقون اللحم، ويكسرون العظم».

كان مشتري المنصب ينتظر بعد نجاحه في تحقيق بغيته، أن يجمع أضعاف ما دفعه للمسؤولين في إسطنبول. وكما يقول أطلس: «كان من الطبيعي أن هذا الوالي أو الدفتردار أو القاضي الذي وصل إلى منصبه بالمزايدة أو الشراء، يعمل على استرداد مبلغه من الأهلين، ويهلك حرثهم ونسلهم، ويسلب قوتهم، وقد ساعد هؤلاء الموظفين المرتشين بُعدُهم عن دار السلطنة - إستانبول - من جهة، وتعامي السلطان وأهل الحل والعقد في العاصمة عن سماع أصوات المتظلمين من جهة ثانية».

يستعين المؤرخ السوري بمواطنه المفكر الشهير محمد كرد علي، لتقديم المزيد من التفصيلات حول بيع المناصب في الدولة العثمانية. يقول: «نقل المرحوم كرد علي عن المؤرخ التركي أحمد جودت باشا قوله: إن الدولة العلية لما انتقلت من دور البداوة إلى الحضارة لم يتخذ رجالها الأسباب اللازمة لهذا الانتقال، وحصروا أوقاتهم في حظوظ أنفسهم وشهواتهم، يقيمون في العاصمة القصور الفخمة، ويفرشونها بأنواع الأثاث والرياش مما لا يتناسب مع رواتبهم، فاضطروا إلى الارتشاء وبيع المناصب بالمال وتلزيم البلاد وأقطاعها بالأثمان الفاحشة، فضاق ذرع الأهلين، واضطر كثير من أهل الذمة أن يهجروا الأرض العثمانية إلى البلاد الخارجية، وترك غيرهم القرى وجاء إلى الأستانة فرارًا من الظلم، فلم يبقَ مكان في الأستانة، وتلاصقت الدور وتضايقت أنفاس الناس وكثر الحريق والأوبئة».

يعلق محمد سعد أطلس على ذلك بقوله: «وإذا كانت هذه حال الدولة وهي في أوج عزها، فإنها حين ضعفت أضحت بحالة يرثى لها من الانحدار الخلقي والإداري، على الرغم من اتساع رقعة بلادها من ڤيينا إلى أقصى بلاد العرب، ومن إيران إلى المغرب الأقصى، وماذا تعني سعة الرقعة والبلاد يعمها الجهل، وينتشر فيها المرض، وتفتك بها الثورات الداخلية، والولاة تسلب الحكام، والحكام تسلب الأهالي، والجند يعيثون في الأرض فسادًا على اختلاف طبقاتهم وأنواع وجاقاتهم من قبوقولية، وانكشارية، ولاوند، وسكبان، وغير ذلك من الفرق والطبقات التي كانت كل واحدة منها حربًا على أختها من جهة، وحربًا على الأهلين من جهة ثانية».

شراء المناصب أيضًا دفع نظام الضرائب في البلاد العثمانية إلى حالة غير مسبوقة من الفوضى، حيث عمد الباشوات الولاة إلى فرض ضرائب بلا أدنى سبب، لمجرد ضمان استرداد أموالهم التي دفعوها للحصول على المنصب. يقول أطلس: «أما جباية الأموال فكانت على غير قاعدة، ولا في سبيل الفائدة العامة، وكان همُّ الولاة والقضاة وسائر الحكام أن يجمعوا الضرائب والفرائض من الأهلين على اختلاف طبقاتهم بالقوة، وإذا ما رفع أحدهم صوته أو اشتكى خنقوه أو قتلوه أو نفوه أو صادروه، والويل كل الويل لمن يجرؤ على العصيان، ومخالفة أمر أولي الطاعة والسلطان، فإنهم حاكمون بأمرهم وبأمر السلطان ظل الله على الأرض، وصاحب الكلمة المطلقة، الذي لا يُسأل عما يفعل، وله وحده الطول والحول والقوة».

الجدير بالذكر أن مصر كانت أحد أكثر الأقاليم العثمانية تضرراً من بيع المناصب، بعد أن اكتوت بمجموعة كبيرة من الولاة والقضاة الفاسدين، الذين حلبوا الضرع المصري حتى كاد يجف. وقد خلد المصريون ذلك - كعادتهم - في أمثالهم الشعبي الشهيرة، والتي منها: «يفْتِي عَلَى الْإِبْرَهْ وِيِبْلَعِ الْمِدْرَهْ»، والذي فسره العلامة أحمد تيمور باشا في معجمه للأمثال العامية المصرية بقوله: «المِدْرَه: خشبة تُدْفَع بها السفينة.. والمعنى: يدقق في فتواه حتى يتناول الشيء الدقيق كالإبرة، فيمنع عنه، ويتساهل في أخذ الرشا (جمع رشوة) فتراه يبلع الْمِدْرَهْ مع غلظة في طبعه».

وهناك كذلك المثل الشعبي: «اِلْقَاضِي إِنْ مَد إِيدُهْ كِتْرِتْ شُهُودِ الزُّورْ». وفيه يقول تيمور: «أي: إن مَدَّ القاضي يده للرِّشْوَة كثرت شهود الزور للاحتياج إليهم في الدعاوى الكاذبة. يُضرَب في أن فساد الرأس رأسُ الفساد».

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع