مضائق البوسفور والدردنيل: كيف مهدت الطريق لسقوط الدولة العثمانية؟ (2)

حملة جاليبولي

حملة جاليبولي

كتب: خالد أبو هريرة

في العام 1798، هبطت الحملة الفرنسية مصراً، والتي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، فسارع الأتراك إلى التحالف مع بريطانيا ضد الفرنسيين. وبالفعل، نجح الحلف العثماني-الإنجليزي في إجبار فرنسا على الاعتراف بهزيمتها والانسحاب من القاهرة في العام 1801. وأصبح على تركيا تلبية طلبات بريطانيا في مقابل تلك المساعدة الثمينة، وكانت قضية المضائق في الطليعة من تلك الطلبات.

يقول الأديب اللبناني أسعد خليل داغر في كتابه (ثورة العرب): «في يناير من العام 1808 فتحت إنجلترا موضوع الدردنيل، وأبرمت معاهدة جديدة مع الباب العالي وبعض الدول العظمى منعت بموجبها كل السفن غير العثمانية من دخول البحر الأسود أو الخروج منه، فغلَّ الباب العالي يده بهذه المعاهدات المتناقضة، وقضى على حرية تصرفهِ في أملاكه، وكانت هذه المعاهدة ضد روسيا وفي مصلحة دول الغرب البحرية، ولكن روسيا انتقمت لنفسها بإكراه الباب العالي في معاهدة هنكار اسكله سي (٢٦ يوليو سنة ١٨٣٣) على إقفال البواغيز في وجه الدول البحرية التي تعلن الحرب عليها».

منذ تلك اللحظة، باتت الدول العظمى تتدخل في مسألة المضائق تارة لمصلحة روسيا، وتارة ضدها، متبعة تقلب الحال. «وفي سنة ١٨٤١ تمكنت إنجلترا من إلغاء معاهدة هنكار إسكله سي، وأبرمت معاهدة لندن (١٣ يونيو سنة ١٨٤١) التي تقضي بإقفال البواغيز وإقامة الباب العالي بوليسًا على الدردنيل والبسفور، وكانت معاهدة لندن موجهة ضد روسيا؛ لأنها لم تبحث في إقفال البواغيز إلا في إبان السلم، فكأنها تركت للباب العالي حرية فتحهِ في إبان الحرب للدولة التي تهاجم روسيا من البحر الأسود، وهذا ما وقع فعلًا في سنة ١٨٤٥ لما دخلت أساطيل الحلفاء في ذلك الحين بحر مرمرة لمهاجمة شواطئ روسيا».

يتابع داغر: «وفي سنة ١٨٥٦ أُبْرِمَتْ معاهدة باريس، وجاء فيها: أن البحر الأسود بحر محايد لا تدخله البوارج الحربية، ولا يجوز لروسيا إنشاء ترسانات على شواطئه». ثم فتحت مسألة المضائق مرة أخرى «في معاهدتي لندن (سنة ١٨٧١) وبرلين (سنة ١٨٧٨)، واتفقت الدول على أن (تبقى مقفلة وأن لا تدخلها البوارج الحربية إلا باتفاق الدول العظمى وفي الأحوال المعينة في المعاهدات السابقة)».

تابعت مضائق البوسفور والدردنيل دورها الرئيس في الصراعات الدولية. «ولما أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية ووصلت جيوشها إلى أيا استفانوس دخلت الأساطيل البريطانية مضيق الدردنيل لمنع الروس من الوصول إلى الأستانة بحجة أن معاهدتي لندن وبرلين تركتا للباب العالي حرية فتح البواغيز أو إقفالها حسبما تقتضي الأحوال، ولكن إنكلترا عينها منعت الباب العالي سنة ١٩٠٢ وسنة ١٩٠٤ من فتح البواغيز للأسطول الروسي بحجة أن معاهدتي لندن وبرلين تقضيان عليه بتنفيذ قرارات الدول العظمى في هذا الشأن».

تلك التناقضات العميقة والتي تعكس غياباً لسياسة واضحة، دفعت أسعد داغر إلى القول: «الباب العالي كان يسير دائمًا مع تيار السياسة، والمعاهدات لم يكن لها شأن في نظره ونظر الدول العظمى أيضًا؛ فإن الأساطيل الإنجليزية وأساطيل الدول المتحالفة دخلت البواغيز في سني ١٨٠٧ و١٨٥٤ و١٨٧٨ باسم معاهدتي لندن وبرلين، ثم مُنِعَتْ الأساطيل الروسية من دخولها سنة ١٩٠٢ والخروج منها سنة ١٩٠٤ باسم تينك المعاهدتين أيضًا، ودخلتهما البارجتان الألمانيتان جوبن وبرسلو في ١١ أغسطس بالحجة عينها».

وقد كان على الجميع الانتظار إلى الحرب العظمى (1914 - 1918) لحسم مسألة المضائق، حيث تحالفت بريطانيا وفرنسا وروسيا ضد الدولة العثمانية وألمانيا القيصرية. وشهد العام 1915 اتفاق الفريق الأول بصورة سرية على «التنازل عن الأراضي العثمانية التي تسيطر على المضائق للإمبراطورية الروسية». وحاولت بريطانيا احتلال المضائق في حملة جاليبولي الشهيرة، ولكن الدفاع البطولي الذي أبداه العثمانيون كتب على حملتهم الفشل. وفي النهاية، كتبت هزيمة تركيا الإجمالية في العام 1918 إلى رضوخها لرغبات بريطانيا وفرنسا وترك المضائق منزوعة السلاح، مع فتحها في جميع حالات السلم والحرب. ثم عقدت معاهدة مونترو الشهيرة للمضائق في العام 1936، والتي منحت الجمهورية التركية الحق في إدارة المضائق، ومنع السفن الحربية من المرور في حالة الحرب.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع