الإسكندرية في زمن الأتراك.. يحميها 250 جنديًا لا يجيدون سوى التدخين

الإسكندرية

الإسكندرية

كتب: خالد أبو هريرة

بين عامي 1782 و1785، جال الرحالة الفرنسي، قسطنطين فرانسوا تشاسيبوف (1757 - 1820) في أراضي مصر وسوريا، وهو مؤرخ ومستشرق، معروف باسم كونت دي فولني. ثم خلف ملاحظاته خلال رحلته تلك في كتاب دونه عقب عودته إلى بلاده، ترجم إلى اللغة العربية على يد الأديب اللبناني إدوارد البستاني بعنوان: «ثلاثة أعوام في مصر وبر الشام».

الكتاب الذي يحتشد بالآراء الاستشراقية الحادة والمميزة لفترة تأليفه، لا يخلو في الوقت نفسه من معلومات مهمة عن أوضاع مصر والشام خلال أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكانا معًا لا يزالان تحت السيطرة العثمانية، ويعانيان -خصوصًا مصر- من اضطرابات سياسية واقتصادية، نتيجة ضعف الباب العالي، واستحواذ نخب عسكرية محلية على السلطة في تلك البلاد، وأعني تحديدًا المماليك في القاهرة.

ضمن تلك المعلومات المهمة التي أوردها فولني، تأتي إشاراته إلى أحوال الإسكندرية، الثغر الشمالي للديار المصرية. فالضعف الكبير الذي كانت عليه تحصينات المدينة، والذي شدد عليه الرحالة الفرنسي، يجعل من نجاح الحملة الفرنسية في احتلالها بسهولة -وهي التي هبطت فوق ساحل الإسكندرية عقب عودة فولني إلى موطنه بنحو ثلاث عشرة سنة- أمرًا مقبولًا ومنطقيًا.

يقول فولني عن الإسكندرية، «إن الإسكندرية في حالتها الحاضرة محور تجارة عظيمة. فهي باب جميع السلع التي تخرج من مصر عبر المتوسط، ما خلا أرز دمياط. فللأوروبيين هناك متاجر تصرف فيها بضائعنا عن طريق المقايضة. وإنك لتشاهد باستمرار سفن مارسيليا وليفورنو والبندقية وراغوز وغيرها. على أن الاشتاء (أي قضاء الشتاء) فيها محفوف بالمخاطر. فالمرفأ الجديد، وهو الوحيد الذي ينزل منه الأوروبيون، قد امتلأ بالرمال إلى حد أن حيازيم السفن تصطدم بقاع البحر في إبان العواصف. ولما كان الغور صخريًا فإن حبال المراسي لا تلبث أن تنقطع بفعل الاحتكاك، حتى إذا أفلتت سفينة تندفع على أخرى وهذه على ثالثة، وهكذا دواليك، حتى تغرق السفن جميعا. وقد وقعت سابقة مشؤومة منذ ثماني عشرة سنة إذ تحطمت اثنتان وأربعون سفينة على الرصيف في عاصفة هبت من الشمال الغربي».

يتابع الحديث عن موانئ الإسكندرية، منتقدا العثمانيين الأتراك في لهجة استشراقية عنيفة: «أما المرفأ القديم الذي تقوم على مدخله رقعة الأرض المسماة رأس التين، فهو غير معرض لمثل تلك الكوارث. على أن الأتراك لا يستقبلون فيه إلا سفن المسلمين. وقد يسأل سائل في أوروبا: لماذا لا يرممون المرفأ الجديد؟، ذلك أن الأتراك يتلفون ولا يرممون. وسيهدمون المرفأ القديم أيضا حيث ترمى صوايير (أي صواري) السفن منذ مائتي عام. إن ذهنية التركي هي أن يهدم أعمال الماضي وآمال المستقبل، وما من غد يرجى للجهل والبربرية».

لقد قاد ذلك الحديث فولني إلى الكلام عن دفاعات المدينة، فيقول: «إن الإسكندرية لا تحسب شيئاً من الناحية الحربية، لأنك لا ترى فيها أي تحصين، حتى أن المنارة بأبراجها العالية غير جديرة باسمها. فهي لا تجنحها مدافع صالحة ولا مدفعيون يقومون على إدارتها. أما الانكشارية الخمسمائة الذين يجب أن تتألف منهم الحامية فقد أنزل عددهم إلى نصفه. وهم لا يحسنون عملا إلا تدخين الغلايين».

ويفسر الرحالة الفرنسي ذلك باطمئنان السلطات العثمانية/ المملوكية في مصر لعدم إقدام القوى الأوروبية على مهاجمة الإسكندرية. يقول:«والأتراك مرتاحون إلى أن مصلحة الفرنسيين قائمة في عدم التعرض لهذه المدينة. إن باستطاعة دارعة تنطلق من مالطة أو من روسيا أن تحولها إلى رماد. على أن فتحا كهذا لا فائدة منه ولا يجدي. فالأجنبي لا يطيق الإقامة فيها، لأن الأرض تعوزها المياه ويقتضي جرها إليها من النيل بواسطة ترعة أو قناة طولها اثنا عشر فرسخًا يسيل فيها الماء كل سنة عند الفيضان، فيملأ المستودعات الأرضية والآبار المحفورة تحت المدينة القديمة ليخزن فيها حتى السنة التالية، ويشعر الأجنبي أنه لو أراد السكنى هناك لسدت بسببه القناة».

لكن فولني لم يفطن إلى الأهمية الجيوسياسية للإسكندرية -بل ومصر كلها- بالنسبة لبلاده، أي فرنسا، حيث وضعت خطة سرية لاحتلال مصر خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر - أي الفترة نفسها التي زار فيها فولني القاهرة - تمهيداً لمهاجمة المستعمرات البريطانية في الهند. وهي الخطة ذاتها التي استخدمها نابليون بونابرت في حملته على المحروسة العام 1798، وقدر لفولني أن يعاصرها.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع