من الفحم إلى النفط.. كيف أهدر العثمانيون ثروات الشرق؟

منجم عثماني

منجم عثماني

كتب: خالد أبو هريرة

رغم عمليات التحديث التي قامت بها السلطنة العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، والتي أوقفتها على التطورات العلمية الواقعة في أوروبا، وكانت عمليات استخراج المعادن المختلفة من باطن الأرض أحد تجلياتها، فإن الأتراك عجزوا عن استغلال الحجم الهائل من تلك المعادن، والذي كان متوافرا في إمبراطوريتهم العريضة الممتدة عبر ثلاث قارات.

ينسب هذا الأمر من جهة إلى ضعف الدولة العثمانية العسكري وخضوعها لإرادة القوى الأجنبية التي عمدت إلى احتكار تلك الموارد من خلال امتيازات التنقيب التي حصدتها من الأتراك في إسطنبول. كما يعزى من جهة أخرى إلى الفساد البيروقراطي العثماني نفسه، خصوصا خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

في كتابه (الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده)، والذي احتفل خلاله بانقلاب تركيا الفتاة (1908) الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني، عرج الأديب اللبناني الكبير سليمان البستاني على قضية الموارد التعدينية غير المستغلة في العالم العثماني، وتوقف أمامها قليلا بالبحث والدرس، منبها قارئ الكتاب إلى الفرص الممتازة التي أضاعها الأتراك على الشرق الكبير بتقصيرهم في الدفاع عما تحويه أراضيه من ثروات هائلة أمام الأطماع الأوروبية، وهو الأمر الذي أورث الشرقيين فقرا مقيما وبؤسا دائما، لا يتناسب أبدا وغنى بلادهم.

يقول البستاني: «لم تلتفت الحكومة العثمانية في زمن من الأزمان إلى تَحَرِّي المعادن الموجودة في بلاد السلطنة بعناية تضمن استخراج تلك الكنوز الدفينة، ولكن كل الظواهر البادية من تشعُّب المناطق والتربة فيها وبحث السياح وطلاب الثروة بطريق الامتيازات واهتمام بعض الولاة وتقارير قناصل الدول تؤدي إلى الاعتقاد بوجود معادن كثيرة مختلفة الأنواع عظيمة الشأن. مما ظهرت آثاره ومما لم تظهر».

في أعقاب ذلك، يعدد الأديب اللبناني الموارد المضيعة على الشرقيين، بادئا بـ «الفحمُ الحجريُّ، وهو من أعظم أركان الثروة. موجود في قسمي أُوروبا وآسيا مما بذلت بعض الهمة في استخراجه كمعادن هركلي، ومما لا يزال مهملًا كمناجم مندلي في ولاية بغداد». وهناك أيضا «معادن الكروم والرصاص الفضي (التي) تُستخرج بقلة من الولايات الأوروبية، ومثلها معادن الحمر في الأراضي السنية بسوريا والنحاس في أرغني بولاية ديار بكر. وفي مواضع كثيرة معادن ظاهرة، وتوشك أن تكون مهملة كل الإهمال، ومنها الذهب والفضة والأنتيمون والزرنيخ والسنباذج والزئبق والمنجنيز والحديد والقار الحجري والسائل والكبريت والبورق ومقالع الرخام على اختلاف أنواعه».

حتى النفط - وكان العالم وقت تأليف كتاب (الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده) على حافة التحول من استخدام الفحم إلى البترول - كان مهملا من قبل العثمانيين، رغم الإشارات المتكررة إلى تواجده بكثافة هائلة في الأراضي الخاضعة لدولتهم، خصوصا في شمال العراق.

يقول البستاني: «وليس ببعيدٍ أن يكون فيها (أي أراضي الدولة العثمانية) منابع بترول غزيرة. فقد شرع منذ نحو خمس وعشرين سنة باستخراجه من ضواحي الإسكندرونة ثم أُهمل لأسباب غامضة، وأما في ولاية بغداد فوجودُه محقَّق؛ إذ يستعمله أهالي مندلي وجوارها بحالته الطبيعية بلا تصفية، وقد كان مدحت باشا (والي بغداد وأحد الإصلاحيين العثمانيين الكبار) اهتم باستخراجه على الطرق الحديثة، فأنفق مبالغ طائلة على بناء معمل في بعقوبة استجلب له الآلات والمهندسين، وطالما بدت بوارقُ النجاح غادر مدحت الولاية فأُقفل المعمل ولعبت به أيدي الدمار».

إلى جانب كل ما سبق، وجدت في الأراضي العثمانية كذلك موارد متجددة عديدة. منها «المياه المعدنية بجميع أنواعها الحارة والباردة، فهي متفجرة في مواضعَ كثيرةٍ لا يكاد يُلتفت إليها مع ثُبُوت مضاهاتها لأحسن الأنواع من أمثالها في أُوروبا، وهي كثيرةٌ بعضها في أُوروبا كمياه بورصة، وبعضها في آسيا كمياه وادي العمق بولاية حلب».

ويبدي سليمان البستاني عجبه من أن «مياه الحمة في فلسطين، التي كان يقصدها عظماءُ أُوروبا للاستشفاء، وأنشأ فيها قياصرةُ الرومان حمامات تدل آثارُها على عظمةٍ لا مثيل لها في أشباهها بأُوروبا، باتت مهملة لا ينتابها إلَّا القليلون من أبناء الجوار ممن لا يُطيق الانتقال إلى أوروبا».

هناك أيضا «الملاحات البرية والبحرية فكثيرةٌ جدًّا، وبعضها يُستخرج منه الملح بهَمَّةٍ وعناية فينتج دخلًا غير قليل، ولا عجب بتلك العناية الخاصة فإدارة الديون العمومية هي الرقيبة عليها الحافظة لدخلها».

وفقا للبستاني، لم تكن أزمة استغلال الموارد في العالم العثماني بسبب غياب القوانين والتشريعات المنظمة لعمليات التنقيب عن المعادن المختلفة، ففي «الدستور القديم (يقصد دستور 1876) قانونٌ وافٍ للمعادن ضامنٌ لحقوق الدولة والأفراد، ولكن الاستبداد كان يعبث به عبثه في غيره؛ فقد شاهدنا غير مرة باحثًا مجتهدًا أو مكتشفًا خبيرًا عثر على منجم فأنفق المال في البحث والامتحان وطلب الرخصة الرسمية باستخراجه وأُجريت المعاملات المعتادة، وإذا بالإرادة السنية (أي السلطان عبد الحميد الثاني) صدرت بإعطائه هبة أو لقاء بدل طفيف لأحد المقربين».

ورغم ان البستاني يختتم كلامه متفائلا بقدرة حكومة تركيا الفتاة (والمعروفة كذلك باسم جمعية الاتحاد والترقي) التي خلعت عبد الحميد وأصبحت لها الكلمة العليا في الدولة العثمانية، على تعويض ما فات الشرق في قضية المعادن، فإن تفاؤله في الحقيقة لم يكن في موضعه، وقد شهد هو بنفسه تنازل الاتحاديين قبيل الحرب العظمى عن ملكية الدولة في نفط شمال العراق، لصالح شركة النفط التركية التي لم يكن للأتراك فيها سوى الاسم، بينما توزعت أسهمها في الحقيقة بين البريطانيين والألمان.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع