تركيا في مطار كابل.. بث الروح في الدور الوظيفي لأنقرة

حركة طالبان

حركة طالبان

دراسة: د.أيمن سمير

أين ليبيا والعرب من هذا السيناريو؟

رغم أن اتفاقية السلام بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان الأفغانية، نصت بوضوح كامل على سحب كل القوات الأمريكية وجميع قوات حلف الناتو التي جاءت مع القوات الأمريكية للأراضي الأفغانية في عام 2001، إلا أن الرئيس التركي تقدم بعرض للرئيس جو بايدن، أثناء القمة التي جمعت الزعيمين الشهر الماضي في بروكسل من أجل إبقاء 600 جندي تركي لحراسة مطار حامد كرزاي، وهو المطار الذي يبعد 65 كيلومتراً جنوب العاصمة كابول، وتوجد قوات لتركيا في أفغانستان منذ عام 2001 عندما وافق البرلمان التركي على المشاركة في قوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان (إيساف).

وقبلت الولايات المتحدة وحلف الناتو العرض التركي، لكن واشنطن وأنقره ما زالتا حتى كتابة هذه الدراسة يناقشان ما تسميه تركيا شروطها للبقاء في مطار كابل، وما تطلق عليه الولايات المتحدة توفير الظروف الملائمة لنجاح المهمة. وتقول تركيا علانية إنها تحتاج إلى دعم مالي ودبلوماسي ولوجستي لمهمتها الجديدة في أفغانستان، وقدرت بعض مراكز الأبحاث الأمريكية تكلفة بقاء 600 جندي في المطار بما بين 80 إلى 130 مليون دولار سنوياً، لكن تركيا تلمح بين الحين والآخر إلى أنها قد تزيد عدد الجنود هناك إلى ما هو أكثر من 600 جندي، كما تحدث المرصد السوري لحقوق الإنسان عن عرض من جانب القوات التركية في شمال غرب سوريا، و في مناطق شمال شرق الفرات، عن إرسال مرتزقة سوريين إلى مطار كابول الذي يشكل نافذة أفغانستان الوحيدة للعالم، خاصة بالنسبة للبعثات الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية والإغاثية في المستقبل، حيث تعد أفغانستان دولة حبيسة وليس لها موانئ على البحار أو المحيطات، وهي مهام استراتيجية ستكون الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون حريصين عليها كقناة دائمة لدعم الحكومة الأفغانية الحالية وعدم إسقاطها من جانب طالبان. كما تزداد أهمية المطار في الفترة القادمة بالنسبة للدبلوماسيين الأجانب ولبقاء السفارة الأمريكية مفتوحة، ويشكل مطار العاصمة نقطة وصول مهمة للموظفين الدوليين، وكذلك لملايين الأفغان، خصوصاً مع طبيعة البلاد التي تضم طرقاً خطيرة. وهذا يعني أنه في حال اندلاع القتال الذي تتخوف دول عدة من وقوعه بعد الانسحاب الأميركي، ستجبر السفارات والمنظمات الدولية على الإغلاق.

وتحليل مضمون التصريحات الأمريكية والغربية في هذا الشأن يقول إن المسؤولين الأمريكيين قدموا «وعوداً فقط»، لكنهم لم يقدموا أي ضمانات، لكن المهمة الجديدة التي يريدها أردوغان تتشابك وتتقاطع مع تعقيدات في الداخل التركي، وفي الأوساط الإقليمية المجاورة لأفغانستان، بل تصل إلى ارتباطاتها بالصراع الدولي الذي تصل أطرافه بين الولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، فما هي الأهداف التركية من تلك «المغامرة الجديدة»؟ وهل ستتحول أفغانستان التي توصف بأنها «مقبرة الإمبراطوريات» إلى «مستنقع جديد» للقوات التركية؟ وما هي أبرز العقبات والمشاكل التي تحول دون نجاح تركيا في المهمة الجديدة؟ وما هي الأوراق السياسية والاستراتيجية التي تعتمد عليها تركيا في إبقاء قواتها في بلاد تورا بورا، والتي يتوقع لها الجميع أن تدخل في جولة جديدة من الحروب الأهلية؟

 

ماذا تريد تركيا؟

رغم أن التحليل الموضوعي يقول إن تركيا فشلت كما فشلت كل دول حلف الناتو في مهمتهم في أفغانستان، إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يرى أن عرضه بالبقاء في أفغانستان يمكن أن يحقق له هو شخصياً ولحكومته الكثير من المزايا والأوراق السياسية، ومن هذه الأوراق ما يلي:

1-يعتقد أردوغان أن تقديم عرض للبقاء في مطار كابل سوف يحسن من علاقته الشخصية مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي ينتقد أردوغان دائماً منذ أن كان مرشحاً عن الحزب الديمقراطي، كما أن أردوغان على ثقة كاملة بأن الرئيس بايدن غير راض عن سياسته في ملفات كثيرة منها ملفات شرق المتوسط، وحقوق الإنسان، والانحياز التركي الكامل لأذربيجان على حساب أرمينيا، لهذا يعتقد أردوغان أن هذه «فرصة نادرة» لتحسين علاقته مع البيت الأبيض وتبييض صورته التي لطختها الكثير من التصرفات والسلوكيات التركية، آخرها محاولة تغيير الوضع القانوني لمنطقة فاروشا التابعة لمدينة فاجاموسكا في الجزء المحتل من جزيرة قبرص، وهو القرار الذي اعترضت عليه الولايات المتحدة بشدة، وقادت مجلس الأمن الدولي للتنديد بالخطوة التركية.

2- يريد الرئيس التركي التخفيف من التوتر الذي لحق بالعلاقة بين واشنطن وأنقرة منذ اعتراف الولايات المتحدة بالإبادة الجماعية التركية عام 1915 بحق الأرمن، ويرى أردوغان أن استئناف الاتصالات والاجتماعات بين المسؤولين الأتراك ونظرائهم الأمريكيين حول العرض التركي بالبقاء في مطار كابل يشكل نهاية للتوتر الحاد مع الإدارة الأمريكية، ويخفف من التوتر الأمريكي التركي حول قضايا الداعية الإسلامي التركي فتح لله جولن المقيم في ولاية بنسلفانيا، الذي ترفض واشنطن تسلميه إلى أنقرة، كما أن من شأن أي نوع من الشراكة التركية مع الولايات المتحدة لبقاء تركيا كممثل للناتو في مطار كابل أن يخفف من الانتقادات الأمريكية للتوسعات التركية على حساب الأكراد سواء في شمال سوريا أو العراق

3- وفق صحف «وول ستريت جورنال» و«فورن بولسي»، فإن أردوغان طلب أثماناً سياسية كبيرة للغاية مقابل بقائه في مطار كابل، ومن تلك المطالب التي يراها الخبراء الأمريكيون أنها غير واقعية طلب أردوغان رفع كل العقوبات التي فرضتها واشنطن على أنقرة بسبب شراء تركيا منظومة «إس 400» الروسية، التي بسببها فرضت الولايات المتحدة عقوبات على هيئة التصنيع العسكري التركي، بالإضافة إلى طرد تركيا من برنامج الطائرة الأمريكية «إف 35»، وفي ظل الصراع الأمريكي الروسي لا يمكن للرئيس بايدن أن يقبل بالشرط التركي الرئيسي حول منظومة «إس 400» الروسية، لأنها تتعارض مع قيم الناتو التي تقول إن هذه المنظومة خطيرة جداً على الطائرة الأمريكية «إف 35»، خاصة أن هناك أصواتاً في الكونجرس، خاصة في لجنتي الشئون الخارجية في مجلسي النواب والشيوخ ومن الحزبين يرفضون شرط أردوغان حول منظومة الدفاع الروسية.

4- تعتقد تركيا أن القيام بمهمة حفظ الأمن في مطار كابل بعد خروج القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة، يساعد في بث الروح من جديد في «الدور الوظيفي» التركي الذي كانت تركيا تضطلع به لصالح الولايات المتحدة وحلف الناتو منذ دخول تركيا للحلف عام 1952، وحتى الآن رحب حلف الناتو فقط بالعرض التركي، لكنه لم يبد أي نوع من أشكال الدعم، ربما لشعور الناتو أن مصالح تركيا فقط وراء عرض أنقرة وليس مصالح الناتو كحلف، لكن يظل عمل المطار بشكل منتظم لو تحقق يصب في صالح دول الحلف وسفاراتها التي تعمل حتى الآن، ولم تعلن أنها ستغلقها في وقت قريب باستثناء أستراليا التي أغلقت سفارتها، وسحبت كل قواتها ، ولكل ذلك تسعى تركيا لتقدم نفسها للناتو باعتبارها عضواً موثوقاً فيه ومستعداً لتحمل المخاطر ، كما تريد تركيا أن تقول للناتو إن مصالحها معه أهم بكثير من العلاقة الطارئة مع روسيا والكرملين.

5- تراهن تركيا أن قيامها بمهمة حماية مطار كابل، سواء بالجنود الأتراك أو المرتزقة التركمان السوريين يجعها في موقف المقايضة مع الدول الأوربية وحلف الناتو والولايات المتحدة في ملفات كثيرة تهم تركيا في المشرق العربي وليبيا، و منها احتلالها لأراض في شمال شرق وشمال غرب سوريا، واحتلالها لمساحات تصل لعمق 120 كلم في شمال العراق وصولاً لمعسكر بعشيقة، لكن الجائزة الأكبر التي تريد تركيا الحصول عليها مقابل البقاء في مطار كابل هي غض الطرف الأوروبي ودول الناتو والولايات المتحدة عن وجودها في غرب ليبيا، والاعتراف بالاتفاقية التي وقعها أردوغان مع السراج في نوفمبر 2019، وعدم المطالبة بخروج تركيا والعناصر التركية والسورية التي جاءت بها إلى ليبيا، بل وتراهن أن هذه الخطوة في أفغانستان سوف تمنع الحديث عن خروج تركيا العسكري من قاعدة الوطية البرية وقاعدة مصراته البحرية في ليبيا.

6- منذ انتهاء الجولة الأخيرة من الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، تقوم تركيا بدعاية كبيرة لدى كل دول ما يسمى بـ«المجلس التركي»، وهي الدول الناطقة بالتركية في وسط أسيا وجنوب القوقاز، وتروج تركيا لنفسها في هذه المنطقة باعتبارها دولة إقليمية تهتم لشعوب هذه الدول، ولهذا ترى أنقره في بقائها في مطار كابل مع سعيها لبناء قاعدة عسكرية جديدة في مدينة شوشا الأذربيجانية سوف يدعم من طموحها كدولة لها نفوذ إقليمي في آسيا الوسطى ودول المجلس التركي، فأردوغان يرى في الوجود العسكري التركي في أفغانستان بدون مظلة الناتو سيمنح تركيا طريقاً من المصالح الحيوية يمتد من أنقرة إلى آسيا الوسطى والقوقاز، حيث توجد الشعوب التركية في دول الاتحاد التركي.

 

ما هي أوراق تركيا؟

يقوم التصور التركي على أن أنقرة لديها من الأوراق ما يقنع حركة طالبان ببقاء القوات التركية في مطار كابل، كما تعتقد تركيا أن الحسابات في المنطقة تساعدها على البقاء دون أن تدفع خسائر مادية أو بشرية كبيرة، وتقوم المعادلات التركية على مجموعة من الأوراق وهي:

1- أن القوات التركية طوال فترة أدائها لمهامها في مطار كابل لم تدخل في عمليات عسكرية، ولم تشتبك مع قوات طالبان اعتماداً على أنه منذ عام 2001 عقب هزيمة طالبان ودخول قوات الناتو، لم تقترب طالبان منذ ذلك اليوم من المطار، كما أن تركيا تقول إنها استطاعت بناء علاقات وطيدة مع قادة طالبان، وتراهن على أن المطالبة بخروج القوات التركية من جانب طالبان سيتوقف بعد استكمال الانسحاب الأمريكي.

2- تقوم الحسابات التركية على أن حلفاءها الفاعلين على الأرض، وهما قطر وباكستان، سيلعبان دوراً كبيراً في إقناع طالبان بالقبول ببقاء القوات التركية في مطار كابل، فقطر لها علاقات خاصة مع طالبان ولم تنقطع خلال السنوات العشرين الماضية، كما أن باكستان هي الراعي الرسمي الأول لحركة طالبان التي استطاعت البقاء ومواجهة ضربات الناتو بفعل الدعم الكامل وغير المشروط من باكستان، باعتبار أن طالبان تمثل قومية الباشتون في أفغانستان، ومعروف أن كل القبائل الباشتونية الأفغانية لها امتدادات وفروع داخل باكستان، وترى تركيا أن العلاقات القوية بين إسلام آباد وأنقرة، خاصة في مجال التسليح والتقارب الكبير بين سياسات رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ستلعب الدور المهم والحاسم في بقاء بل ونجاح مهمة القوات التركية في مطار كابل.

3- تروج تركيا لما تقول إنها علاقات تاريخية مع أفغانستان وبعض المكونات الأفغانية، خاصة الأوزبيك والتركمان الذين يتركز وجودهم في المناطق الشمالية من البلاد، وهؤلاء يتحدثون اللغة التركية وينحدرون من العرق العثماني كما تقول أنقرة، وهؤلاء يختلفون عن باقي السكان الذي يتحدث أغلبهم اللغة الفارسية، وتعتمد تركيا في هذا المسار على علاقات قديمة وقوية مع قوات «التحالف الشمالي»، وتحديداً مع المارشال عبدالرشيد دستم أحد أبرز قادة أقلية الأوزبك في شمال البلاد، كما زادت أنقرة من دبلوماسيتها الناعمة في أفغانستان عبر زيادة المنح الدراسية وتدريب الموظفين وإنشاء القنصليات المنتشرة في الولايات الأفغانية، ولهذا يعول أردوغان على هذه العلاقات بحيث تكون رافعة للمشروع التركي الجديد في أفغانستان.

4- يعتقد الرئيس أردوغان أن من السهل عليه جذب صديقه عمران خان رئيس الوزراء الباكستاني، لمشاركته في مهمته في مطار كابل بجانب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي يقول عنه أردوغان إنه من أصل عثماني، ولهذا تقوم حسابات أردوغان أن مشاركة باكستان في العملية ستضع خطاً فاصلاً لتهديدات طالبان، كما أن مشاركة المجر قد تؤكد للأوربيين ولحلف الناتو أن الغرض من العملية هي مصالح الحلف وليس فقط مصالح أنقرة.

 

ما هي العقبات التي تحول دون ذلك؟

تمتد مساحات التعقيدات والمشاكل التي تحول دون بقاء أو نجاح تركيا في مطار كابل من الداخل التركي مروراً بالتعقيدات الإقليمية وصولاً إلى الصراعات الدولية حول أفغانستان، ومن أبرز تلك العقبات ما يلي:

1- رفض الداخل التركي المغامرة الجديدة لأردوغان، ويرفض هؤلاء ذهاب الجنود الأتراك بعيداً من أجل أهداف يعتقدون أنها خاصة بالرئيس التركي وحزبه العدالة والتنمية، ولا تعبر على الإطلاق عن مصالح الشعب التركي، ويتخوف الشارع التركي من أن يتحول الوجود التركي في المطار ورغبة أردوغان في زيادة عدد القوات إلى أكثر من 600 جندي مع رفض طالبان لبقائهم، أن يتحول كل ذلك إلى مستنقع كبير، وتعتمد المعارضة التركية في حساباتها على أن التحالف الدولي بكل ما يملك من قوات ومعدات ودعم وصل لتريليون دولار فشل في تحقيق مهمته، فهل تنجح تركيا بمفردها في مهمة عجزت عنها إمبراطوريات من قبل، وتقوم تقديرات غالبية الأحزاب التركية على أن أفغانستان التي لم تعرف الاستقرار آخر 50 عاماً سوف تدخل مرحلة جديدة من الحرب الأهلية، لأن هناك مكونات أخرى غير الحكومة الأفغانية ترفض سيطرة طالبان على الحكم بالقوة، وهو ما يجعل البيئة السياسية الأفغانية جاهزة لسنوات طويلة من الحرب الأهلية، وتعتقد المعارضة التركية أن بقاء 600 جندي تركي سيكون البداية لمزيد من الانخراط الذي قد يصل إلى المستنقع، وذهب بعض من أنصار المعارضة التركية لاتهام أردوغان بالرغبة في السيطرة على طرق نقل المخدرات والكوكايين الأفغانية.

2- ترفض روسيا تماماً العرض التركي، وتراه امتداداً لاحتلال حلف الناتو للأراضي الأفغانية، وتتخوف روسيا بشكل رئيسي من وجود قاعدة للناتو (مطار كابل) قريبة من أراضيها، حيث توجد قواعد روسية قريبة جداً من الحدود الأفغانية، خاصة القواعد الروسية في طاجاكستان وأوزباكستان وقيرقيزستان، وتخشى روسيا من زيادة النفوذ التركي في تلك المنطقة، وتعتبره موجهًا بشكل رئيسي ضد الدولة الروسية، خاصة أن روسيا رفضت من قبل إنشاء تركيا لقاعدة عسكرية في مدينة شوشا الأذربيجانية التي استردها أذربيجان من أرمينيا في الحرب الأخيرة. وترى موسكو أن نشاط تركيا سواء في دول جنوب القوقاز أو آسيا الوسطى يصب في صالح المجموعات المتطرفة التي تحاول التأثير على العمق الروسي، سواء في مناطق شمال القوقاز أو حتى داخل مناطق بعيدة في روسيا مثل موسكو وسان بطرسبورج، التي وجد فيها بالفعل أكثر من مرة خلايا إرهابية، كما تخشى روسيا أن يكون زيادة النفوذ التركي في المنطقة انطلاقاً من أفغانستان وبالتكامل مع القاعدة التركية في أذربيجان بمثابة تحريض لشعوب دول «الاتحاد التركي» للتمرد على العلاقة الخاصة بين هذه الشعوب وروسيا، التي استثمرت فيها روسيا كثيراً حتى تكون بعيدة عن نفوذ حلف الناتو الذي يزحف بالقرب من الأراضي الروسية، وتحتفظ روسيا منذ أيام الوجود السوفيتي بعلاقات قوية مع الكثير من القبائل والقوميات الأفغانية، وترى موسكو أنها في مرحلة «جني الثمار»، وهي ترى الولايات المتحدة وحلف الناتو يجرون أذيال الهزيمة ويتجرعون من نفس الكأس التي تجرعها الاتحاد السوفيتي السابق الذي احتل أفغانستان عام 1979، وبسبب دعم الولايات المتحدة لما كان يسمى «المجاهدين الأفغان»، خرج الاتحاد السوفيتي مهزوماً عام 1989، وأدت هزيمته في أفغانستان ضمن عوامل أخرى إلى انهياره التام عام 1990، ولهذا لا تريد موسكو بث الروح في عملية الناتو من جديد في أفغانستان عبر الوجود التركي، وترى نفسها هي من ساهمت في هزيمة الولايات المتحدة والناتو، وربما خير دليل على ذلك القضية التي أثارها الديمقراطيون في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، عندما اتهموا الرئيس السابق بتجاهل معلومات مخابراتية تقول إن روسيا دفعت أموالاً لطالبان لقتل الجنود الأمريكيين، فلا تريد روسيا أن تضيع نشوة النصر ورد الصفعة للولايات المتحدة عندما ترى وكيلة الولايات المتحدة (تركيا) تظل في مطار كابل، لكل ذلك بدأت روسيا مرحلة جديدة تماماً مع حركة طالبان باستقبال وفد كبير من الحركة في موسكو، والسماح له بعقد مؤتمر صحفي للترويج لأجندة طالبان في مرحلة ما بعد الخروج الأمريكي من أفغانستان. والهدف من كل ذلك أن يظل موقف طالبان صلباً في وجه أي نوع من البقاء التركي في مطار كابول.

3- ترفض الهند المشروع التركي القائم على البقاء في مطار كابول، وتنظر نيودلهي إلى تركيا باعتبارها حليفاً لكل الجماعات الإرهابية في المنطقة، وتعتقد الهند أن وجود تركيا في أفغانستان سيكون عاملاً إضافياً على تشجيع الجماعات الإرهابية في الهند، خاصة في ولايات جامو وكشمير ولاداخ، كما لا تنظر الهند بعين الراحة للعلاقة القوية والتعاون العسكري الذي يجمع تركيا مع غريمتها اللدود باكستان، وهناك اعتقاد سائد في آسيا الوسطى يقول إن انسحاب الناتو والولايات المتحدة من أفغانستان يصب في صالح باكستان وطالبان وضد المصالح الهندية بشكل مباشر، وترى الهند في بقاء تركيا مشكلة إضافية، وسبق أن اتهمت الهند تركيا بالتدخل في الشؤون الداخلية الهندية عندما انحازت تركيا لصالح الجماعات المسلحة في جامو وكشمير، والذين تعتبرهم الهند جماعات إرهابية وانفصالية.

4- ترفض الصين بقاء تركيا في مطار كابل من زاويتين، الأولى وهي نظرة الصين لتركيا باعتبارها محفزاً وداعماً للجماعات الإرهابية والانفصالية، خاصة من إقليم شينجيانج الذي تطلق عليه تركيا «تركستان الشرقية»، ولهذا تعتبر الصين بقاء قوات الأتراك في مطار كابول بمثابة اقتراب من الحدود الصينية الغربية، وخاصة إقليم شينجيانج الذي يضم الأقلية الويجورية التي تتبناها تركيا بشكل كامل في خطابها السياسي والإعلامي، وترى بكين في القوات التركية في مطار كابول بمثابة دعم لما تطلق عليهم الإرهابيين من شينجيانج، والذين يقاتلون في شمال غرب سوريا تحت عباءة المخابرات التركية تحت اسم «الجيش الإسلامي التركستاني»، وهم جماعة من الإرهابيين ترى فيهم الصين أكبر خطر على أمنها القومي، خاصة في مناطقها الشمالية الغربية التي ينطلق منها القطار الصيني الدولي الذي يتجه من الصين إلى الغرب وإلى الدول الأوروبية. ويرتبط بهذا التخوف قلق الصين من أن وجود تركيا، سواء بشكل ثنائي عبر اتفاقية مع الحكومة الأفغانية أو تحت مظلة ما يسمى بـ«القوات الإسلامية»، كما تدعي تركيا سوف يكون محفزاً لكل المجموعات الإرهابية والخلايا النائمة في وسط آسيا، وهي منطقة حيوية للغاية للمشروع الصيني (الحزام والطريق)، الذي أطلقه الرئيس شي جين بينج عام 2013 ، وترى الصين أن أكبر خطر على هذا المشروع بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يأتي من تركيا وعملائها وخلاياها في المنطقة، خاصة هؤلاء الذين تدربوا على العمليات الإرهابية ويرفضون «التصرفات الصينية» في شينجيانج، ويتعلق القلق الصيني بالخوف من أن تتحد المجموعات التكفيرية في تلك المنطقة بدعم تركي من أجل مواجهة الصين تحت شعار الدفاع عن «المظلومية» التي يتعرض لها مسلمو الإيجور، كما ترى الصين في استمرار الوجود العسكري التركي في مطار كابل بمثابة تهديد واضح لمشروع الحزام والطريق الذي أطلقة الرئيس شي جين بينج في عام 2013، لأن وجود قوات عسكرية تركية من شانه أن يحفز كل العناصر الانفصالية على مساحة كبيرة على طوال الحزام والطريق الذي يمكن أن يفشل بفعل انعدام الأمن في منطقة هشة للغاية، ويزيد حضور الجماعات الإرهابية فيها بشكل لافت، حيث أشارت العديد من التقارير الصينية والروسية إلى أن عناصر داعش بدأوا بالفعل في الانتقال من الشرق الأوسط نحو أفغانستان، مع إعلان الرئيس بايدن سحب كل القوات الأمريكية وقوات الناتو من أفغانستان قبل 11 سبتمبر القادم.

5- بعد توقيع إيران لاتفاقية التعاون الاستراتيجي لمدة 25 عاماً مع الصين، تفضل طهران العمل مع بكين في أفغانستان على العمل مع تركيا، لأن العائد الاقتصادي من المشروعات الاقتصادية والاستثمارات الصينية ونصيب إيران من مشروعات الحزام والطريق الصينية يفوق أي مصالح يمكن أن تتحقق مع أنقرة، خاصة أن إيران نجحت لحد كبير في صياغة علاقة مع طالبان تحفظ بموجبها طالبان حقوق «الهزارة الشيعة» في معادلة المستقبل الأفغاني.

6-تشكل الاندفاعة العسكرية لطالبان والسيطرة على مساحات شاسعة منذ إعلان الرئيس بايدن استكمال الانسحاب أكبر خطر على القوات التركية في كابول، فحتى الآن فشلت كل المحاولات التركية في تغيير موقف طالبان الذي يعتبر أي قوات جاءت مع حلف الناتو بمثابة قوات احتلال، وهو ما يؤكد أن طالبان ستسعى للسيطرة على المطار في إطار سعيها للسيطرة على كل الأراضي الأفغانية.

7- ترى بعض الأطراف الأفغانية خطورة شديدة في بقاء القوات التركية في مطار كابول، وأن تأمين المطار دون باقي الولايات والمديريات الأفغانية قد يؤدي إلى تقسيم أفغانستان بين شمال وجنوب، أو على الأقل قد يحولها للنظام الكونفدرالي، وهذا التخوف عبر عنه الكثير من رموز النخبة الأفغانية التي ترى أن ارتفاع وتيرة القتال بين طالبان والحكومة الأفغانية قد يؤدي إلى تقسيم البلاد، وأن بقاء تركيا في مطار كابول سيكون محفزاً قوياً لهذا السيناريو الذي لا يريده العقلاء من الأفغان.

8- يعد «عامل الزمن» من أكثر الصعوبات التي تواجه بقاء القوات التركية في مطار كابول، حيث إن خط النهاية لقوات الناتو بما فيها القوات الأمريكية والتركية بات واضحاً، ورفض طالبان بقاء تركيا ما زال مستمراً، ناهيك عن أن الوقت لا يسمح بإعادة أي دعم لوجستي للقوات التركية التي تحمي المطار ، كذلك لا يسمح الوقت لتركيا ببناء تحالف سياسي قد يناهض طالبان التي تتوسع على الأرض بما يصعب بتأسيس تحالف عسكري مناهض للحركة.

 

السيناريوهات:

الأول: سقوط كابول

هذا السيناريو سيؤدي لحرب مباشرة بين طالبان وبين القوات التركية المتمركزة جنوب العاصمة، وقد يؤدي هذا السيناريو إلى اقتتال بين القوات التركية وحركة طالبان التي لا ينبغي التقليل من شأنها، فهي حركة تأسست في قندهار عام 1994، ونجحت خلال الحرب الأهلية الأفغانية في الاستيلاء على كابول عام 1996، وتعتمد الحركة على قاعدة كبيرة من البشتون، ولها علاقات قوية مع تجار السلاح والمخدرات، وهو ما أكسبها مصادر تمويل وحشد وتعبئة طوال السنوات العشرين الماضية في وجه قوات الناتو ، كما أن عوامل مثل ضعف الوعي القومي والتعدد العرقي واللغوي تصب في صالح استغلال طالبان للأوضاع الأفغانية، ونسبة هذا السيناريو تصل إلى 35 %.

 

السيناريو الثاني: «حرب أهلية طويلة»

وهذا سيعتمد على الدعم الأمريكي والغربي للحكومة الافغانية في مرحلة ما بعد القوات الدولية، وهذا السيناريو قد يخدم الأجندة التركية في بقاء قواتها في مطار كابول، فالقراءة الميدانية في الوقت الحالي تقول إن طالبان تسيطر على 85 % من الأراضي الأفغانية لكن كلها خارج المدن، والطبيعي أن طالبان ستبدأ بالسيطرة على هذه المدن ثم بعد ذلك السيطرة على كابول، بما فيها المطار ونسبة هذا السيناريو لا تزيد عن 25 %.

 

السيناريو الثالث: المناوشات دون تغيير جوهري

يقوم هذا السيناريو على نجاح الحكومة الأفغانية في الحفاظ على ما لديها من أراض، وتعزيز دفاعاتها بشكل جيد، واستخدام الميزة النسبية لها من خلال سلاح الطيران، ويرتبط بهذا السيناريو بتراجع دعم روسيا وإيران وباكستان لطالبان بعد خروج القوات الأمريكية وقوات الناتو، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى احتفاظ كل طرف بما لديه من أراض لفترة طويلة قد تكرس لتقسيم فعلي لأفغانستان في المستقبل، وهذا سيساعد على بقاء القوات التركية في أفغانستان ومطار كابول، ونسبة هذا السيناريو 20 %.

 

السيناريو الثالث: التوصل للاتفاق سلام

يعتمد على نجاح الوسطاء الإقليميين والدوليين في إقناع طالبان والحكومة الأفغانية بالتوصل لاتفاق سلام، وتشكيل حكومة ائتلافية أو إسلامية، ويقوم هذا السيناريو أيضاً على تقييم روسي يقول إن غالبية قادة طالبان سئموا من الحرب بعد عقدين كاملين من الحرب، وأنهم تواقون للسلام كما تعتقد موسكو ، ونسبة هذا السيناريو لا تزيد عن 20%.

 

روشته عربية:

تشكل أفغانستان مصدراً للخطر على العالم العربي، باعتبارها بيئة جاهزة وحاضنة للجماعات الإرهابية والتكفيرية، ولهذا يتوجب على الدول العربية القيام بعدد من الخطوات للحفاظ على أمنها القومي، ومن تلك الخطوات ما يلي:

1- منع «العائدون إلى أفغانستان» من العودة مرة أخرى لبلاد تورا بورا، فغالبية التقديرات في وسط آسيا تقول إن داعش والقاعدة تتجه نحو أفغانستان باعتبارها الملاذ الآمن الآن بعد الانسحاب الأمريكي والناتو من أفغانستان، وبعد قرار الرئيس جو بايدن الخطير جداً بتقييد قدرة القادة الميدانيين على استخدام «الطائرات المسيرة» في قتل الإرهابيين، وهذا ما سيجعل من أفغانستان أكثر بلاد العالم أماناً وراحة للإرهابيين، وهو ما يفرض على الدول العربية فرض رقابة صارمة على كل من يذهب إلى أفغانستان أو باكستان أو أي دولة يمكن من خلالها الوصول إلى أفغانستان، ومراقبة كاملة لكل من يرجع هناك.

2- رصد كل حركات التواصل بين المواطنين العرب وكل من هو على الأرض الأفغانية، فكل المؤشرات تقول إن هناك من يعد العدة لجيل جديد من ما كان يسمى بالأفغان العرب، لأن ذهاب هؤلاء سيعني في يوم من الأيام عودتهم للدول العربية وتشكيل خطر على الأمن القومي العربية والدولة الوطنية العربية.

3- فتح قنوات اتصال مع العشائر والقبائل الأفغانية، سواء في المناطق التي تسيطر عليها طالبان أو الحكومة، لأن هؤلاء الذين تتغير ولاءاتهم بين الصباح والمساء يمكن أن يكونوا عين الدول العربية على الإرهابيين العرب حال وصولهم إلى أفغانستان.

4- فتح خطوط اتصال مع المجموعات العرقية غير البشتون مثل الأوزبيك، فهؤلاء يمكن أن يعملوا ضد طالبان والقاعدة من باب التنافس، وحرصهم على السيطرة على مناطقهم دون سيطرة طالبان على أراضيهم.

5- مراقبة التحويلات المالية من الدول العربية لأفغانستان، خاصة تلك التي تكون تحت عنوان «المساعدات الإنسانية والإغاثية»، لأن تلك الأموال غالباً ما تذهب للإرهابيين سواء العرب أو الأفغان.

شاركنا بتعليقك

تقع المسؤولية الأدبية والقانونية للتعليقات والمساهمات المنشورة على الموقع، على صاحبها، ولا تعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى إدارة الموقع